ظل السؤال مطروحا: «لماذا انتحر الشاعر أحمد عبيدة؟ كان يوم 8 أغسطس - مثل هذا اليوم – 1974، هو اليوم الثالث على موتة المفجع، وكان السؤال يشغل قريته «العمار الكبرى - طوخ - قليوبية – والأوساط الثقافية والأدبية اليسارية بالقاهرة.. «راجع - ذات يوم،6 و7 أغسطس 2019».
يستكمل معى صديقه الشاعر عزت عامر الذى رافقه فى سجنه الأخير بشبين الكوم والشهور التى تلت الإفراج عنهما: «بعد خروجنا من السجن، ويأس أحمد من استرداد شنطة أشعاره من الأمن بدأ يكلمنى فى الانتحار، نمشى فى الشارع يتكلم عنه، نجلس فى أى قعدة يتكلم عنه، يكلمنى عن إن الأمن يطارده فى كل مكان.. كمان كان عايش حالة السجن لدرجة أنه كان يضع السجائر فى كل جيوبه.. قلت له: يا أحمد أنت تقدر تشترى السجاير فى أى وقت.. رد: لا يا عزت، دى ممكن تخلص فى أى وقت ولو خلصت هتبقى مشكلة، مش حنعرف نتصرف مع السجانين».
يضيف عامر: «غادر القاهرة إلى بلده العمار الكبرى، سافرت إليه، سهرت معه ليلة كاملة لأقنعه بأنه مريض ولابد من علاجه، لم يعترف، كان مقتنعا أنه صح.. أعطانى انطباعا بأنه خلاص أقلع عن فكرة الانتحار، لكن الحقيقة أنها كانت متأصلة بداخله».. يصمت عامر ثم يضيف بحزن: «استطاع أن يخدعنى».
من بين أصدقائه وتلاميذه ومحبيه، يتذكر كمال شعيب: «نبهنا عبد العزيز الشاذلى وهو أحد المؤسسين لحركة الشباب فى العمار، إلى مرضه، وضرورة علاجه، نجحنا فى أن نأخذ له إجازة من الشغل حتى لا يُفصل نتيجة انقطاعه، أصبحت عنده حالة شك فى الكل، أنا مثلا أقرب الناس له قال لى: أنت من عائلة الفقى، عائلة خونة، خانوا أحمد عرابى».. يضيف شعيب: «كنت مقيما فى إمبابة بالقرب من أخيه، جاءت لى أخته، قالت لى: أحمد مضرب عن الطعام من 3 أيام ومش عارفين نعمل له حاجة.. رحت أكلمه، قالى لى: أنت من عائلة الفقى الخونة».
يتذكر «عبدالمعبود سليمان»: «استدعينا تاكسى، أقنعته أنا وكمال أننا حنسافر البلد.. جلس كمال من ناحية، وأنا من ناحية وهو بيننا، كنا نسد عليه فرصة النزول من الباب بالعافية وقت اكتشافه أننا فى الطريق إلى المستشفى.. عرف اتجاه التاكسى، فصاح بأعلى صوته: «أنتم من عائلة الفقى الخونة».. أدخلناه، كان الشاعر نجيب سرور فى المستشفى للعلاج من نفس مرض أحمد».. يتذكر شعيب: «تحسنت حالته، زرته فى المستشفى، تكلمنا، وضحكنا، ولعبنا شطرنج وغلبنى».
خرج من المستشفى، لكن قرار الانتحار كان يكبر فى صدره يوما بعد يوم.. يرصده «شعيب»: «لما كنا نناقشه فى المرض، يرد: أنا كويس، أنا عادى، أنا مش تعبان ولا مريض.. بعد كده أصبح يناقش المسألة من ناحية ثانية، كان يقول: «حلمى أعمل تغيير اجتماعى ومحصلش، وتغيير فكرى ومش قادر، يبقى أعيش ليه، أكمل حياتى ليه، خلاص كل شىء انتهى».. نرد عليه: «أنت مبدع وشاعر وفنان، وعملت، وأمامنا حلم الثورة».. يرد: «خلاص، مش حقدر أعمل ثورة، ولا قادر على الإبداع، يعنى حياتى ملهاش معنى.. مفيش منها أى لزمة».. يتذكر محسن شوقى: «كان فى فترته الأخيرة يقضى أحيانا الليل فى بيتنا المجاور له.. أنا أذاكر دروسى وهو يقرأ.. فى ليلة جاء إليه إلهام الشعر، لكنه عجز عن الإمساك بالقلم فبكى بحرقة، ورغم ذلك عندى قصيدة كتبها قبل وفاته بأربعة شهور».
يستكمل عبد المعبود تلك الحالة الدرامية: «فى الفترة الأخيرة من حياته تقريبا كان يقضى معظم الوقت معى فى البيت عندى، كنت أحتفظ بمرتبه ويأخذ منه احتياجاته اليومية، كانت مناقشاته تتكرر معى فى وسيلة موته.. قال: «مقدرش أكمل كده.. أرد عليه: أنت تعيش لشعرك وإبداعك وفريق الكورال اللى كونته.. لكن هو كان أخذ القرار، طلب بندقية، ثم قال: دى هتبقى صعبة.. طلب سم فئران بحجة إن الفئران تأكل الكتب فى داره.. مرة قال لى: خلاص مفيش غير أقف أمام القطار.. المهم إن كلامه كان يؤكد أنه قرر، والتنفيذ مسألة وقت».
يتذكر عبدالمعبود تفاصيل يوم النهاية: «فى اليوم السابق لوفاته كنا نجلس فى دوار صديقنا محيى عبد العاطى «ضابط شرطة» فيما بعد، ونائب برلمانى»، قال لى إنه سيذهب إلى جنزور للحصول على شنطة أشعاره من الأمن، أعطيته فلوس.. طلبت منه أن ينزل بنها وهو فى طريقه لشراء قلب ويد للطلمبة الموجودة فى داره، وحاجات تانية لتجهيز الدار لنجلس فيها، كانت محاولة لإخراجه مما هو فيه.. فى اليوم الذى اعتزم فيه السفر لجنزور جاء لى، ووجهه مكفهر.. سألته: «مالك، فيه إيه.. اشتريت قلب الطلمبة واليد؟.. رد ملوحا بيده: لا قلب ولا يد، أنا كل ما أركب أتوبيس ألاقيه مليان مباحث، قلت له: هم متابعينك، مش مشكلة.. لم أُسفه كلامه.
يتدخل عمر خيرى: «عرفت إنه لما كان بيذهب لأخته، يقول عن أى شخص يراه أمام البيت: «ده مباحث».. يواصل عبد المعبود: «تناول الغذاء معى، خرجنا، قلت له: تعالى نمر على أصحابنا ونروح كلنا ننظف الدار، رفض: «لا تنضيف ولا غيره، أنا ماشى».. بعد حوالى ساعة ونصف سمعت فى الشارع صوت يصرخ: «أحمد راح. راح. راح.. أحمد اتحرق».. وتستمر الدراما.