فى اليوم الرابع لوفاة الشاعر أحمد عبيدة «9 أغسطس- مثل هذا اليوم - 1974» وسط النيران بين كتبه وملابسه فى وسط داره ببلدته «العمار الكبرى– طوخ– قليوبية» كان البحث متواصلا ومازال عن إجابة لسؤال: «لماذا أنهى حياته بإرادته؟».. «راجع– ذات يوم 6 و7 و8 أغسطس 2019».
تدفقت الإجابات على سؤالى: «لماذا؟».. يتذكر الشاعر زين العابدين فؤاد: «متواليات الإحباطات لعبيدة عشناها معه، كنا نقول له: ياأحمد، فيه مبدعين كتير اتقبض عليهم، وطلعوا عشان يستكملوا مشروعهم..الرؤية السياسية يا أحمد، عامل واحد فى رؤية شاملة للفنان عن الحياة، فيه خيوط تانية مع السياسة تخلينا نحب ونعيش الحياة».. كنا نقول، لكنه كان اختار مصيره».
يفرك الشاعر عزت عامر جبهته بيده اليمنى صامتا كأنه يسترجع شيئا، ثم يقول لى: «حاولت أفهم مكونات شخصيته التى أدت به إلى نهايته.. هل هو فى أعماقه فنان يقف على حافة العقل واللاعقل، حافة الوعى واللاوعى وينتج شعره كله من المنطقة دى؟ أم كان عنده إيمان بالوجودية بمعنى أن تعيش براحتك وتٌنهى حياتك براحتك؟ أم كان متدينا؟.. هوكان عايش على الحافة فى الشعر والحياة بين العقل واللاعقل، مثل شعراء عالميين زى رامبو وبودلير وآخرين».
يقطع عامر: «أحمد، عمره ما كان ملحد، لم يروج أفكارا ضد الدين أبدا.. الصفة دى روجها ضده ناس من الاتجاهات المتأسلمة لأغراض خبيثة.. أحمد كان إنسانى جدا، محب للفقراء، يعطيهم شعرا وحبا وما يملك.. كان ملطوط صوفيا فى حياته دون الارتباط بمنابع الصوفية المعروفة.. كان له عين تلتقط ما لا نراه، كان فى السجن يشوف حاجات لا أراها أنا ويحكيها لى، لا يحكى عن جنيات، ولا ملائكة، ولا عذراوات، يحكى عن تهيؤات، حاولت أن أبررها فى روايتى عنه التى أحرقتها، بأنها أصوات مسجونات فى مكان بالقرب مننا، ونحن نستحم فى السجن، لعل هذه الأصوات هى التى أوحت له بأشياء خيالية كحضور واحدة فى غاية الجمال إليه فى زنزانته».
يتذكر أحد تلاميذه من بلدته «العمار» وهوالشاعر «عاطف الشاذلى»، فى بوست نشره على صفحته فى «فيس بوك»، واستأذنته فى الاستعانة بجزء منه. يتذكر وهو تلميذ فى المدرسة دخول أستاذهم عبدالعليم عليهم باكيا، وهويقول: «خلاص ياولاد، عمكو أحمد مات..قالها ثم ارتمى على الكرسى وارتفع بكاؤه أكثر، وأتبعه بكاء جماعى من تلاميذ الفصل، يتخلله كلمات قليلة من الأستاذ عبدالعليم: «عليه العوض ومنه العوض يارب».. «ياحبيبى ياأحمد، والله الـحياة حاتبقى وحشة من غيرك».
يضيف الشاذلى: «عم أحمد كان شاعرا تلقائيا عرفناه من خلال صديقه الأستاذ عبدالعليم، حيث كان يتردد إليه فـى المدرسة ويحضر معه الـحصص، ويشاركنا الـحصة كأنه زميل لنا، يشعــرنا بالسعادة والألفة معه، وبمرور الوقت بدأ يتعامل معنا كأنه صديق بالفعل، يلعب ويلهو ويغنى ويصحبنا فـى طريق السير إلى المدرسة والعودة منها، ليقدم فقراته المنوعة والمشوقة لنا جدا حتى أصبح من الأساسيات التى ننتظرها كل يوم بشغف، حفظنا أشعاره الـجميلة التى كان يمتعنا بها ونرددها معه: «أنا اسمى عطوه عوده عوضين/ وانت إسمك هوشى منه/ وانا منك وانت منا/ غير شى بس الداية غلطت فـى الأسامى/واحنا من يوم ما اتقابلنا/فـى سكة الغيط الفوقانى/ وع الزقاق والقنطرة/ وسكة السوق الوسيعة/ اتلاقينا/ اتلاقينا».
يتذكر الشاذلى، اصطحاب تلاميذ الفصل بنين وبنات له ذهابا وإيابا للمدرسة، يرددون معه أغانيه وأشعاره.. يضيف: «سألناه عن اسمه كاملا، قال: «أحمد عبد الشعب».. يؤكد: «لم نفهم ما الذى يقصده بتلك الإجابة، لكنه كان يسعد جدا عندما نناديه بهذا اللقب»..يكشف: «على الـجانب الآخر كان أهل القرية متعجبين من تصرفاته الغريبة، فراحوا يتهمونه بالـجنون والإلـحاد، ويتخوفون من أفعاله الغريبة، لكن كان غير مبال بتلك الاتهامات، فـى الوقت الذى استطـاع أن يقنعـنا بشخصيتـه ويجعلنـا نتــودد إليه».
تمكن اليأس من هذا«الصوفى» برأى «عامر»، و«المبهج للتلاميذ» بوصف «الشاذلى»، فقرر أن يغادرها بإرادته، يتذكر أصدقاؤه وتلاميذه فى العمار دراما المغادرة.. يقول عبدالمعبود سليمان: «سمعت صوتا: أحمد راح..أحمد اتحرق.. أسرعنا إلى داره كان الباب مغلقا.. الدار كانت دورا واحدا.. رأينا حفرة كبيرة فى وسط الدار حولها مجموعة دائرية لتصعيب الوصول إليه لإنقاذه.. فى الحفرة الكبيرة وضع كتبه وملابسه.. ورش الجاز عليها، وأشعل النار.. استدعينا الإسعاف، حملته إلى مستشفى طوخ، زحفنا إليها، كنا مئات، كان تقدير الأطباء أن حالة الخطر مستمرة 48 ساعة».
يضيف عبدالمعبود: «تنبه فى اليوم التالى، بص لنفسه، قال: يانهار إسود أنا بظت خالص، ثم مات.. أحمد مات.. بكينا بحرقة».. يتذكر كمال شعيب: «كان له عم شيخ خفر.. كان طيبا، لكنه لا يحبنا باعتقاد إن احنا السبب فى بوظان أحمد، ولما لاحظ حبنا لأحمد احترم ده فينا، فسمح لنا بتنظيم الجنازة بطريقتنا».. يتذكر عبدالمعبود: «زحف الآلاف وراء نعشه.. هتفنا، اختلطت حناجرنا بدموعنا، على مقبرته، وقفت أنا والمرحومان أحمد الشاذلى وأحمد حسين ننشد مقاطع من شعره: «ياقامتى/أنا لست منك/ ولست منى/ إن تودين السجود/فالقبر محراب الكرامة/ والدود صحبى/ إن تعثرت الصداقة بين البشر»..وقصيدته: «عندما تكف أنفاسى عن النشيج/عندما تخرج خيوط الأنوال/ من النسيج/ عندما أكون كالحطابين/ فى الغابات المتشابكة/إحرقونى بأحطاب شجر الجميز/ واطحنوا فحم عظامى/ وانثروها على النيل/ فربما يستيقظ النهر».
ومازال الحديث مستمرا..