بدأت المفاوضات فى القاهرة يوم 2 مارس سنة 1936، بقصر الزعفران، بين هيئة المفاوضة المصرية المؤلفة من ممثلى الأحزاب عدا الحزب الوطنى، والسفير البريطانى فى القاهرة «مايلز لامبسون» أو «اللورد كيلرن»، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الثالث من كتابه «فى أعقاب الثورة المصرية- ثورة 1919»، مضيفا: «استمرت فى الإسكندرية منذ أواخر يوليو بقصر «أنطونيادس»، وانتهت بوضع مشروع المعاهدة التى أمضيت فى لندن بقاعة «لوكارنو» التاريخية بوزارة الخارجية البريطانية يوم 26 أغسطس- مثل هذا اليوم- 1936».
وقع عليها من الجانب المصرى مصطفى النحاس باشا، رئيس الوزراء ورئيس هيئة المفاوضين المصريين، واختلفت نظرة الحركة الوطنية المصرية نحوها.. يذكر الدكتور محمد حسين هيكل باشا فى الجزء الأول من مذكراته «مذكرات فى السياسة المصرية»: «المعاهدة فى مجموعها محالفة أساسها دفاع إنجلترا عن مصر فى الحرب، واقتصار معاونة مصر على تقديم المساعدة لحيلفتها داخل حدود بلادها، ولا يكون ذلك بالاشتراك الفعلى فى الحرب، بل بتقديم الموانى والمطارات وطرق المواصلات لتكون تحت تصرف الجيش البريطانى، على أن المفاوضين المصريين أرادوا أن يحافظوا على الشكل ما استطاعوا، فجعلوا تعهدات الدولتين متساوية فى النص، وإن علموا علم اليقين أنها لن تكون متساوية فى الواقع، من ذلك تعهد كل من الدولتين المتحالفتين ألا تتخذ فى سياستها خطة تخالف سياسة الدولة الأخرى، وطبيعى أن ذلك معناه ألا تتخذ مصر خطة تخالف سياسة إنجلترا، وقد دلت الحوادث من بعد على أن هذا هو الواقع».
كان حزب الوفد هو أشد المؤيدين للمعاهدة.. يذكر هيكل باشا: «نظمت هيئات الوفد بأمر الحكومة مظاهرات ضخمة لاستقبال المفاوضين المصريين، وأطلق النحاس باشا على المعاهدة اسم معاهدة الشرف والاستقلال، وأقامت الحكومة أقواس النصر تمر من خلالها مواكب المفاوضين والدعاة للمعاهدة، وألقى مكرم عبيد خطابا حماسيا فى قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة فؤاد الأول يحبذ به المعاهدة ويعتبرها نصرا مبينا».. يضيف هيكل باشا: «أغدقت الوزارة على أنصارها ومحسوبيها رتبا لا حصر لها، وقيل يومئذ إنها فعلت ذلك ابتهاجا بالمعاهدة ولو أن هذه الرتب اقتصرت على المفاوضين الذين عاونهم فى المفاوضات، لكان ذلك طبيعيا ولما أثار أية ثائرة، لكن المفاوضين لم ينلهم من هذه الرتب شىء، خلا إنعام مجلس الوصاية بقلادة فؤاد الأول على رئيس المفاوضين مصطفى النحاس باشا، وبنيشان الكمال على السيدة المصونة حرمه، وكانت قد صحبته أثناء المفاوضات، أما المفاوضون الآخرون فكانوا فى غنى عن الرتب والألقاب، فأما الذين أنعم عليهم بالرتب المختلفة من عامة الشعب، وممن لم يكن لهم بالمفاوضين صلة، فكانوا يعدون بالمئات، ومنهم كثيرون أنعم عليهم برتبة البكوية ولم يكن أحدهم يطمع فى أن ينال رتبة أو لقبا طيلة حياته، وكان أكثر هؤلاء من أنصار الوفد ومن أعضاء لجانه المركزية فى الأقاليم».
تذكر الدكتورة هدى جمال عبدالناصر فى كتابها «الرؤية البريطانية للحركة الوطنية المصرية 1936 - 1952»، أن أخطر ما فى الأمر بين الطرفين، المصرى والبريطانى هو اختلاف كل منهما فى نظرته العامة لهذه المعاهدة وتكييفها للعلاقات بين البلدين.. تضيف: «وضح عند تطبيق المعاهدة أن الجانب المصرى ينظر إليها أساسا على أنها تحقق الاستقلال، أو أنها على الأقل خطوة فى سبيل تحقيقه، أما الجانب البريطانى فاعتبرها حلا قصير الأمد لمشاكله فى مصر لا يغير من العلاقة الاستعمارية بينه وبين مصر تغييرا جذريا».
تضيف «عبد الناصر»: «المعارضة لمعاهدة 1936 حملت مسؤولية توقيعها على قوات الاحتلال البريطانى وما تمثله من قهر، ثم حملت الجانب المصرى مسؤولية الموافقة على الشروط البريطانية التى كانت أسوأ من مشروع 1930، والتى فرضت أبدية التحالف بين البلدين، ومعنى ذلك أن الجانب المصرى قبل فى 1936 ما رفضه فى 1930، كما انتقدت تلك المعارضة المبالغة للمعاهدة والمغالطات التى ارتكبت فى هذا الشأن».. تؤكد«عبد الناصر»، أن تلك المعاهدة بما نصت عليه من شروط مجحفة بمصر أحدثت تفككا فى الحركة الوطنية المصرية، فقد تباينت مواقف الاتجاهات السياسية المختلفة منها مما انعكس على الحياة السياسية المصرية فى الفترة التالية لتوقيع المعاهدة، وأكثر من ذلك فإن قيادة حزب الأغلبية للمفاوضة وتبنيه لتلك المعاهدة ومبالغته فى قيمتها بالنسبة لمصر، أحدث شرخا فى الحركة الوطنية بوجه عام كان له أبلغ الأثر فى تطورها فيما بعد، وظهور اتجاهات سياسية جديدة تختلف عن الأحزاب التقليدية التى لعبت الدور الرئيسى فى الحياة السياسية المصرية منذ ثورة 1919». فى 18 أكتوبر 1951، توجه «النحاس» إلى اجتماع لمجلسى النواب والشيوخ، وأعلن: «من أجل مصر وقعت معاهدة 1936، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها».