احتشد نحو أربعة آلاف جندى وضابط بأسلحتهم ومدافعهم أمام قصر عابدين يوم الجمعة 9 سبتمبر، مثل هذا اليوم عام 1881، حسبما يؤكد «عبد الرحمن الرافعى» فى كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى»، موضحا: «غصت أطراف الميدان بالجموع الحاشدة من الناس الذين جاءوا ليشهدوا هذا المنظر، وامتلأت نوافذ البيوت المجاورة للسراى وأسطحها بالنظارة، وكان الموقف رهيبا».
هذا الحدث الوطنى الفريد فى تاريخ مصر الذى وقع بين أحمد عرابى وزير الجهادية والخديو توفيق هو أيقونة الثورة العرابية، لكن هناك من يشككون فى وقوعه، متجاهلين لأغراض خبيثة شهادات معاصرين له، وأبرزهم أحمد شفيق باشا أحد موظفى معية الخديو توفيق، ثم رئيس ديوان الخديوى عباس حلمى الثانى.. يذكر «شفيق» فى الجزء الأول من مذكراته: «نزلنا فى الميعاد المحدد للمظاهرة إلى جناح التشريفات المطل على الميدان، ورأينا الجيش قادما من جهة شارع عابدين.. وتقدم عرابى راكبا جواده شاهرا سيفه، وخلفه بعض الضباط، فنزل الخديو إليهم من قصره، غير مكترث لما قد يتعرض له من الأخطار، وكان معه السير أوكلاند كلفن المراقب والمستر كوكسن قنصل إنجلترا فى الإسكندرية».
يذكر «شفيق» أن اثنين من عساكر الخصوصى اتبعا الخديو، أحدهما حسن صادق، وكان ضخم الجسم فلما رأى عرابى شاهرا سيفه، صاح به: أغمد سيفك وانزل عن جوادك، فامتثل، ثم خاطبه الخديو: ما هى أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟ فرد عرابى: «جئنا يا مولاى لنعرض على سموك طلبات الجيش والأمة، فقال الخديو: «وما هى؟» فقال: إسقاط النظارة «الوزارة» المستبدة، وتشكيل مجلس نواب، وتنفيذ القوانين العسكرية التى أمرتم بها.. فقال الخديو: كان فى إمكانك تقديمها للحكومة».. عند ذلك أشار «كلفن» باللغة الإنجليزية إلى الخديو بالعودة إلى القصر، وبقى يناقش عرابى وينصحه بالانسحاب للتفكير فى مطالبه بهدوء، لكن عرابى رفض، فعاد هو وزميله «كوكسن» إلى الخديو ونصحاه بتلبية المطالب، لأن «لاحول ولا قوة لديه».
الشهادة الثانية يذكرها «سليم خليل النقاش» فى الجزء الرابع من كتابه «مصر للمصريين» وتتفق فى جوانب منها مع شهادة «شفيق باشا» وتختلف فى أخرى.. يقول النقاش: «لما اكتمل اجتماع الجيش فى ميدان عابدين، أمر عرابى بإقامة الخفراء على أبواب السراى، وبمنع الدخول إليها والخروج منها، وكانت قناصل الدول حضرت إليها قبل ذلك مع كثير من الذوات، وكانت ساحة عابدين غاصة بجماهير المتفرجين من أجانب ووطنيين ونوافذ البيوت المجاورة للسراى وأسطحتها ملأى بالنساء المتفرجات، فأشرف الخديو على الجيش والسلاملك، وأمر بإحضار عرابى فحضر راكبا جواده سالا سيفه، ومن حوله ضباط السوارى للمحافظة عليه، فأمره بإغماد سيفه والنزول إلى الأرض، وإبعاد الضباط عنه ففعل، ثم خاطبه بقوله: ألم أكن سيدك ومولاك؟ رد عرابى: أجل.. قال الخديو: ألست أنا الذى رقيتك إلى رتبة الأميرالاى؟.. رد عرابى: نعم ولكن من بعد ترقية نحو الأربعمائة.. سأل الخديو: وما هى أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟.. أجاب عرابى: لنقدم طلبات عادلة.. سأل الخديو: وما هى هذه الطلبات؟.. أجاب عرابى: إسقاط الوزارة وتشكيل مجلس النواب، وزيادة عدد الجيش والتصديق على قانون العسكرية الجديد وعزل شيخ الإسلام.. قال الخديو: كل هذه الطلبات ليست من خصائص العسكرية».
يؤكد النقاش، أن القناصل أشاروا على الخديو أن يدخل السراى، وقام قنصلا النمسا وإنجلترا و«كولفن» بدور الرسل بينه وبين عرابى.. ونقلوا لعرابى على لسان الخديو: «إن طلب إسقاط الوزارة وطلب تأليف مجلس النواب من حقوق الأمة لا من حق الجيش، ولا لزوم لطلب زيادة الجيش لأن المالية لا تساعد على ذلك».. رد عرابى: «طلباتى المتعلقة بالأهالى لم أعمد إليها، إلا لأنهم أقامونى نائبا عنهم فى تنفيذها بوساطة هؤلاء العساكر الذين هم إخوانهم وأولادهم، فهى القوة التى ينفذ بها كل ما يعود على الوطن بالخير والمنفعة، وانظر إلى هؤلاء المحتشدين خلف العساكر فهم الأهالى الذين أنابونا عنهم فى طلب حقوقهم، واعلم علم اليقين أننا لا نتنازل عن طلباتنا ولا نبرح هذا المكان ما لم تنفذ».
رد قنصل إنجلترا: «علمت من كلامك أنك ترغب فى تنفيذ اقتراحاتك بالقوة وهذا أمر ينشأ عنه ضياع بلادكم وتلاشهيا»، فرد عرابى: «سنقاوم من يتصدى لمعارضتنا أشد المقاومة إلى أن نفنى عن آخرنا»، فقال القنصل: «وأين قوتكم التى ستدافع بها؟». رد عرابى: «عند الاقتضاء يمكن أن نحشد مليون من العساكر، يدافعون عن بلادهم يسمعون قولى ويلبون إشارتى».
أعلن الخديو موافقته على مطالب عرابى، لكن المشككين فى القصة يسخرون من عرابى فى حواره مع الخديو، ويرونه من خيال عرابى فى مذكراته، ويشككون فى قوله: «لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا وعقارا، فو الله الذى لا إله إلا هو أننا سوف لا نورث، ولا نستعبد بعد اليوم».. يعلق «الرافعى» قائلا، إن «عرابى» يعطى فى مذكراته مسحة من التحوير والتعديل تفخيما للكلمات والعبارات، ويرجح أن الخديو قال: «كل هذه الطلبات لاحق لكم فيها، وأنا خديو البلد وأعمل زى ما أنا عاوز» فرد عرابى: «ونحن لسنا عبيدا ولا نورث بعد اليوم».