فى هدوء تعيش فى عزلتها منذ سنوات، لا تكاد تخرج من غرفتها ، تتحدث قليلا فتشعر فى حديثها بمدى تصالحها مع نفسها ومع الزمن وتغيراته وآثاره على البشر.
إنها سلطانة الطرب وأم البطل الفنانة الكبيرة شريفة فاضل التى تحتفل بعيد ميلادها اليوم حيث ولدت فى مثل هذا اليوم الموافق 15 سبتمبر عام 1938.
ورغم غيابها وابتعادها عن الأضواء منذ سنوات إلا أن صوتها دائمًا حاضر فى حياتنا وفى أهم المناسبات، يملأ الشوارع والبيوت فى أواخر شهر رمضان وهى تردد « تم البدر بدرى»، تبكينا وتسعدنا أغنيتها «أم البطل» فى الانتصارات ومع صعود الشهداء الأبرار إلى الجنة، تملأنا فرحا ونحن نستمع إلى أغنيتها «مبروك عليك يامعجبانى ياغالى»، كما أصبحت أغنياتها ومنها «فلاح كان فايت بيغنى»، «حارة السقايين»، «وأه من الصبر وأه»، «وأه يالمكتوب» و«الليل» علامات فى تاريخ الطرب.
وقد اعتزلت الغناء فى التسعينات بعدما تجاهلها المسؤولون عن حفلات الإذاعة والتليفزيون، ومنذ سنوات لا تخرج سلطانة الطرب من شقتها بجاردن سيتى، بسبب حالتها الصحية، وتقضى أغلب وقتها فى حجرتها، ولا يزورها أحد من الوسط الفنى.
ولا تخرج أم البطل التى كانت ملء السمع والبصر ولقبت باسم سلطانة الطرب من غرفتها ولا ترد على الهاتف، تعيش فى عالم خاص لعلها تجد فيه ريح أحباب رحلوا وتركوا قلبا يدمى ويتشوق للقاء بعد الفراق، لا تتحسر على سنوات مرت وأضواء غابت ورفاق رحلوا أو أصدقاء نسوا ،وتلاميذ الذين كبروا وابتعدوا، وتعيش متصالحة مع نفسها وعمرها وتاريخها وعزلتها.
وتغفو شريفة فاضل فى أغلب أوقاتها مرددة كلمات أغنيتها التى لمست قلوب أجيال وعبرت عن أمهات الأبطال، فكانت أصدق ما سمعناه ورددناه عن أم البطل، تناجى ابنها الشهيد بصوت أصابه الوهن واختلطت فيه مشاعر الحزن بالفخر والشوق: " ابنى حبيبى يا نور عينى بيضربوا بيك المثل ..كل الحبايب بتهنينى طبعا ما أنا أم البطل" ،تتساقط الدموع من عينيها وهى تمسك بصورة ابنها الشهيد السيد سيد بدير، وتغمض عينيها وكأنها تراه وتقترب منه.
ورغم حالة العزلة التى تعيشها سلطانة الطرب إلا أنها متصالحة مع نفسها، وقالت فى آخر حوار أجرته معنا :« أنا كبرت وتعبانة واللى بيكبر ماحدش بيفتكره ولا يزوره، بتوع زمان راحت عليهم، الدنيا تلاهى وماحدش فاضى لحد، أنا خلاص راحت عليا ومش هاخد زمنى وزمن غيرى، كفاية إن الناس بتسمعنى لحد دلوقت".. قالت السلطانة هذه الكلمات بصوت يملؤه الحزن وتظهر من بين نبراته علامات الإرهاق والمرض والتسليم بأن الزمن لم يعد كما كان.
حياتها حافلة بالأحداث، فهى حفيدة المقرئ أحمد ندا مؤسس دولة التلاوة، واسمها الحقيقى فوقية محمود أحمد ندا، انفصل والداها، وتزوجت والدتها من إبراهيم الفلكى أحد أثرياء مصر، الذى أطلق اسمه على ميدان الفلكى الشهير.
عاشت شريفة فاضل مع والدتها وزوجها فى عوامة بالنيل، وكان يزور الأسرة كبار الأثرياء ورجال الدولة ومنهم الملك فاروق، الذى استمع إلى صوتها وهى طفلة فصفق لها.
وبدأت طريق نجوميتها عندما سمعها رجل الأعمال الشهير «السيد ياسين» صاحب مصنع الزجاج الشهير، فاقترح على والدتها وزوجها أن تدخل المجال الفنى كمطربة فى فيلم من إنتاجه، وهو فيلم «الأب»، الذى غنت ومثلت فيه وهى طفلة.
شجعها زوج والدتها وألحقها بمعهد التمثيل والإذاعة قبل أن تكمل سن 13 عامًا، واختار اسمها الفنى الشاعر صالح جودت، الفنى وعرفها على كبار الشعراء والكتاب والفنانين.
وفى منتصف الخمسينيات تزوجت شريفة فاضل من المخرج والممثل السيد بدير، وأنجبت منه ولدين «سيد، وسامى»، وحققت نجاحات كبيرة، ولكنها انفصلت عن السيد بدير بسبب غيرته الشديدة.
وقد استشهد ابنها البطل الطيار سيد السيد بدير فى حرب الاستنزاف، فأصيبت بصدمة شديدة، وقالت فى حوارها معنا: "استشهد ابنى خلال حرب الاستنزاف وقبل انتصارات أكتوبر، بعد تخرجه وتلقيه تدريبات على الطيران فى روسيا، كان ابنى الكبير وأول فرحتى، وتوقفت عن الغناء بعد هذه الصدمة".
وتحدثت عن عودتها للغناء بعد هذه الصدمة قائلة:" فرحت لما انتصرنا فى أكتوبر وطلبت من صديقتى الشاعرة نبيلة قنديل تكتب أغنية عن أم البطل المقاتل، علشان كل أمهات الأبطال اللى استشهدوا واللى انتصروا، ونبيلة قعدت فى غرفة ابنى الشهيد نص ساعة، وخرجت ومعها كلمات أغنية أم البطل، وبكيت وأغمى عليا لما سمعت الكلمات، وبعدها طلبت من الملحن على إسماعيل تلحينها وذهبت إلى الإذاعة لتسجيلها".
تبكى أم البطل وهى تتذكر هذا اللحظات:" كلمات الأغنية كانت صعبة عليا، واتأثرت وأغمى عليا أكتر من مرة وأنا باغنيها، لدرجة إن فايزة أحمد قالتلى طالما مش قادرة تغنيها بلاش، لكن أصريت وسجلتها فى يوم واحد، وكنت دايما باغنيها آخر أغنية فى الحفلات علشان ما بقدرش أغنى بعدها".
أصيبت أم البطل بنزيف فى الشرايين أثناء غناء الأغنية فى إحدى الحفلات وتوقفت فترة عن الغناء، ثم عادت من جديد.
كما تحدثت عن رائعتها "تم البدر بدرى"، مؤكدة أنها كانت تحرص أن يكون لها أغنية فى شهر رمضان، فكتب كلماتها الشاعر عبد الفتاح مصطفى ولحنها الملحن عبد العظيم محمد، ورفضت الحصول على أجر مقابل غنائها، قائلة: "كان كفاية عندى يكون ليا أغنية تتذاع فى شهر رمضان، والحمد لله إن الناس لسه بيغنوها حتى لو مش عارفين اسم اللى غنتها"
وكانت شريفة فاضل سببا فى اكتشاف وشهرة عدد من نجوم الفن، بعد أن أسست كازينو الليل فى الهرم، الذى كان ملتقى لأهل الفن، وقدمت فيه عددا من الفنانين، وقالت عنه:" كنت عاملة كازينو الليل للعائلات، كان مطعم ومسرح وكنت حاطة شروط علشان يكون مكان لائق ومناسب للعائلات وكان ممنوع ستات يدخلوا لوحدهم ".
وأضافت:" كان محمد عبدالوهاب بييجى علشان يسمع أحمد عدوية".
وتزوجت شريفة فاضل اللواء طيار على زكى، وبعد إصابته بالشلل باعت كازينو الليل وتفرغت لخدمته وأنجبت منه ابنها تامر الذى يعيش معها الآن، بينما يعيش ابنها سامى السيد بدير فى أيرلندا.
وعانت "أم البطل" من التجاهل منذ بداية عهد مبارك، وتجاهلها المسئولون عن حفلات الإذاعة والتليفزيون الرسمية، رغم ما قدمته من أعمال وطنية ودينية ومكانتها التى كانت تحظى بها فى عهد الرئيسين جمال عبد الناصر والسادات، فاعتزلت الغناء رغم قدرتها على العطاء فى بداية التسعينات، وتعيش سلطانة الطرب وأم البطل الأن فى حالة هدوء وسكينة وعزلة بعد سنوات تربعت فيهاعلى عرش الشهرة والنجومية، وسمعها الأمراء والملوك والرؤساء، واستحوذت على قلوب البسطاء، لتظل حاضرة بقوة فى كل المناسبات رغم عزلتها وابتعادها عن الأضواء ، وفى عيد ميلادها نوجه تحية تقدير وعرفان لأم البطل وسلطانة الطرب شريفة فاضل صوت الفرح والنصر والحب والحنين.