كانت الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق مساء مثل هذا اليوم « 24سبتمبر 1970» حينما وجه الرئيس السودانى جعفر نميرى نداء بصوته: «الأخ المناضل ياسر عرفات، باسمى شخصيا ونيابة عن الوفد الذى وصل إلى عمان هذه الليلة نرجو منكم أن تقترحوا علينا كيف يمكن الاتصال بكم ومكان وموعد الاجتماع وبأى وسيلة متاحة، وبما أن الأمر هام وعاجل فأرجو تحقيق ذلك حالا، نكرر حالا وشكرا».
كرر راديو عمان النداء حسبما يؤكد الفريق محمد أحمد صادق رئيس أركان الجيش المصرى فى مذكراته »البديل - الموقع الإلكترونى 28 مارس 2015» وكان ضمن الوفد المرافق لـ«نميرى» الذى عاد إلى عمان بقرار من القمة العربية الطارئة المنعقدة فى القاهرة لوقف القتال بين الجيش الأردنى وقوات المقاومة الفلسطينية المنضوية تحت لواء «منظمة التحرير الفلسطينية»، وكانت الأردن مقر وجودها.
جاءت عودة «نميرى» ووفد القمة العربية بعد ساعات من مغادرته عمان، وفشل اتفاقه على وقف القتال يوم 23 سبتمبر.. تكون وفد القمة من «نميرى» و«فاروق أبوعيسى» وزير خارجية السودان، وحسين الشافعى، والفريق صادق، ورشاد فرعون «السعودية» و«سعد عبد الله الصباح «الكويت» والباهى أدغم «رئيس وزراء تونس».
بعد أكثر من ساعة على نداء «نميرى» رد «عرفات» ببيان أذيع من راديو اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية فى دمشق، قال فيه: «سيادة الأخ الرئيس اللواء أركان حرب جعفر محمد نميرى، سمعت نداءكم الموجه إلينا من إذاعة عمان من أجل لقاء عاجل وفورى يجمعنا، وتلبية لندائك أقول: «ليكن الاجتماع الليلة وفى حدود الساعة الواحدة، ونقترح أن تصلوا سيادتكم عبر الطريق الموصل من فندق الكرمان إلى مدرسة عالية إلى مقر سفارة الجمهورية العربية المتحدة «مصر» فى جبل اللوبيدة ويصلكم مندوب من طرفنا ليرافقكم إلى مقر الاجتماع».
التقى وفد القمة العربى مع «عرفات« وفيما كان النقاش يدور حول وقف إطلاق النار، كان »صادق» يخطط فى سرية تامة لتنفيذ عملية تهريب عرفات إلى القاهرة حسب تكليف سرى له من عبد الناصر.. قال له فى تكليفه: «لا بد من إحضار عرفات إلى القاهرة، تصرف» ونجح «صادق» فى مهمته السرية، وعاد بعرفات، يوم 25 سبتمبر.
كانت القاهرة تشهد حدثا مهما فى نفس وقت وجود وفد القمة فى عمان، هو استقالة رئيس الحكومة الأردنية الزعيم »محمد أبو داود«، وكان مشاركا فى القمة العربية كرئيس لوفد الأردن، وكان رئيسا لأول حكومة عسكرية فى تاريخ الأردن، وتشكلت يوم 15سبتمبر 1970.
كتب »داود» فى استقالته إلى الملك حسين: «مع أن جلالتكم والدنيا تعلم أن حكومتى جاءت لهدف واحد هو إصلاح وتنفيذ الاتفاقات والتعاون مع الفداء الغالى وجمع القوى لصد العدو الغاشم، إلا أننى أشعر بأننا ضحينا بوطننا فى خطانا الأولى، ويجب علينا بل للوطن علينا الحق بالتضحية وباستمرار حتى آخر نفس فى جسمنا، ولا زالت هذه المخاوف التى لا مبرر لها، وأنا ابن الفداء وابن فلسطين وجرح فلسطين أحمل جراحى ليومنا هذا، أرجو يا سيدى أن نرفع لجلالتكم استقالتى لتتمكنوا من تأليف حكومة مدنية حسما للمخاوف واعتبارا من هذا اليوم.. عاش الحسين وعاش فدائيو فلسطين أبناؤكم الأبرار».
يرى الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل هذه الاستقالة بأنها »تكاد تكون سقطت من كتاب التاريخ«، بالرغم من تأثيرها القوى فى وقف القتال.. يذكر فى كتابه «الطريق إلى رمضان» تفاصيل الاستقالة، قائلا، إنه كان لداود ابنة تتلقى العلم فى بيروت، وحين سمعت أن والدها فى مؤتمر القمة، جاءت إلى القاهرة، وناشدته ألا ينضم إلى جانب الملك فى إجراءاته ضد المقاومة، كذلك فإن القذافى شدد عليه فى هذا الطلب، وقال له إنه يخون القضية العربية، وانهمرت الدموع من عينى الجنرال وقال متسائلا: »وماذا فى مقدورى أن أفعل؟، فقال له القذافى مشجعا: اترك الخدمة، ابق هنا وابعث باستقالتك«.. يضيف هيكل: »اقتنع الجنرال وسارع القذافى يبلغ عبد الناصر بما حدث، ورأى عبد الناصر أن ذلك تطور مفيد يساعد فى الضغط على الملك حسين».. يؤكد هيكل أنه كوزير للإرشاد القومى اقترح على القذافى أن يعقد الجنرال »داود» مؤتمرا صحفيا يشرح فيه أسباب الاستقالة، وسأله عن مكانه فأبلغه أنه موجود فى مكان سرى وأستطيع أن أخذك إليه».. يتذكر هيكل: »ذهبنا فى سرية شديدة ولدهشتى الكبيرة كان المكان هو قصر القبة فى الجناح المخصص لإقامة القذافى».