كانت الساعة الرابعة بعد الظهر حين أقبل الخديو توفيق، على العرض المعد له فى ميدان عابدين يوم 30 سبتمبر، مثل هذا اليوم 1882.. كان الميدان بوصف «سليم خليل النقاش» فى الجزء السادس من كتابه «مصر للمصريين»: «سرادق عظيم، وافترشت الأرض بالبساط، وتزين بأبهى أنواع الزينة، وذلك لاستقبال استعراض الخديو توفيق للجيش الإنجليزى.
كانت هذه المناسبة واحدة من المناسبات المهينة فى تاريخ مصر والتى بدأها «توفيق» بعد هزيمة الثورة العرابية على أيدى القوات الإنجليزية فى التل الكبير يوم 13 سبتمبر 1882، ثم دخولها القاهرة فى اليوم التالى لتبدأ مصر عصرها تحت الاحتلال الإنجليزى حتى أنهته ثورة 23 يوليو 1952 بالجلاء عام 1954.. يصف عبد الرحمن الرافعى فى كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى» ما فعله توفيق يوم 30 سبتمبر قائلا: «عبر عن غروب شمس الكرامة والعزة القومية فى نفوس أولئك الذين اجتمعوا لتكريم جيش الاحتلال».. جاءت هذه الخطوة المهينة بعد 11 يوما من قرار توفيق بحل الجيش المصرى وتسريح أبطاله، وعقدت محاكمات للذين شاركوا «عرابى»، وقرر«توفيق» بناء جيش جديد يقوده الإنجليز.
كان «ميدان عابدين» على النقيض تماما من اللحظة الوطنية التى كان عليها يوم 9 سبتمبر 1881، ويرصدها محمود الخفيف فى كتابه «أحمد عرابى الزعيم المفترى عليه»، قائلا: «فى الثلاثين من سبتمبر اصطف الجيش الإنجليزى فى ميدان عابدين، فى المكان نفسه، حيث وقف عرابى قبل ذلك بسنة وقفته المشهورة ومعه الجيش المصرى فى التاسع من سبتمبر 1881 يسمع الخديوى مطالب الأمة، ويعلن مشيئتها، ولا تقع عينا توفيق الآن على جنود يتحدونه، بل تقع على جنود يحيونه ويحييهم رافعا يده بالسلام العسكرى، ولكم أثلج فؤاده أن يرى هذه القوة التى ظن أنها تسند عرشه، ولو أنه فكر قليلا لفطن إلى أنها كانت تمتهن ذلك العرش، وكان الخديو فى المقصورة التى أعدت له يرتدى ملابسه الرسمية، وكان يحيط به الوزراء والكبراء كذلك بأرديتهم الرسمية وأوسمتهم».
كان يشارك الخديو فى هذا الحدث الآثم الذين عاونوه ضد «عرابى»، وقدموا خدماتهم من أجل مصالحهم حتى لو كان الثمن هو احتلال مصر.. يذكر النقاش: «فى ذلك اليوم أخذت العساكر الإنجليزية تتهيأ للمرور بين يدى الخديو، فأقبل الخديو بالملابس الرسمية على المقام الذى أعد له، وكان على يساره شريف باشا رئيس مجلس النظار «الوزراء» وأمامه رياض باشا ناظر الداخلية، وعمر باشا لطفى ناظر البحرية والحربية، ووراء مركبته مركبات بقية النظار وبعض العلماء وذوات الحكومة ورجال المعية وغيرهم من الوجهاء والأعيان، وكلهم كانوا بالملابس الرسمية إجلال واحتراما لذلك المشهد».
يضيف «النقاش»: «انتظمت العساكر الإنجليزية صفوفا على اختلاف طبقاتها، واستعدت للمرور أمام الخديو ومن كان معه بمعيته من رجال الحكومة، وكان الجنرال «ولسلى» قائد قوات الاحتلال الإنجليزى، والدوق «دى كونت» نجل الملكة على ظهر الخيل، بجانب المقام الخديو وكثير من الضباط والياوران الإنجليز».
يضيف النقاش: «فى بدء الساعة الخامسة، أخذت العساكر فى المرور واستمرت ساعة ونصف ساعة، وكانت موسيقى كل فرقة منهم تقف أمام المقام وتعزف ألحانها العسكرية حتى يتم مرور فرقتها، ثم تلتها الثانية، ثم تلتها الأخرى، وهكذا إلى أن تم مرور الجيش بأجمعه».
أخذت البهجة طريقها للخديو والحاضرين معه، بما رأوه فى حسب ما جاء فى عدد «الوقائع المصرية» الصادر فى الأول من أكتوبر أى فى اليوم التالى للعرض حيث قالت: «انشرحت صدور الحاضرين وأعجب الجناب الخديوى المعظم بما رآه من مهارة رؤسائهم وضباطهم «الإنجليز»، وحسن انتظام العساكر وكمال نظامهم، وشكر الكل لهم ما قدموا به من إخماد فتنة العصاة وإطفاء ثورتهم»، وتقصد «الوقائع» بالعصاة رجال الثورة العرابية.
كان لمشيخة الأزهر نصيب مما جرى، فحسب «عرابى» فى مذكراته: «فى آخر الاستعراض أمر الخديو بعزل العلامة الشيخ محمد الإنبابى شيخ الجامع الأزهر، وكان حاضرا معه فى الحفلة، وأمر برجوع الشيخ محمد العباسى المهدى إلى مشيخة الأزهر كما كان، وفيما يؤكد عرابى على أن الخديو هو الذى عزل الشيخ الإنبابى، فإن هناك من يقول إن «الإنبابى» هو الذى طلب إعفاءه، لأنه كان من مؤيدى الثورة العرابية، فى حين كان الشيخ «المهدى» من معارضيها، ورفض التوقيع على عريضة عزل الخديوى توفيق.
وسواء أعفى الخديو الشيخ الإنبابى أو الشيخ هو الذى طلب، فمن المؤكد أن توفيق كان يتخلص من كل رجال الثورة العرابية واحدا بعد الآخر.