صراع جديد بدأت تتشكل ملامحه فى الآونة الأخيرة، فى العديد من دول العالم، بين السلطات الحاكمة، وهو ما يبدو واضحا فى الصراع الحالى، بين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، والكونجرس ذو الأغلبية الديمقراطية، على أثر الحملة التى أعلنها الأخير، بعزله، على خلفية الاتصال الهاتفى الذى جمع بين الرئيس الأمريكى ونظيره الأوكرانى فلاديمير زيلنيسكى، حول أنشطة مشبوهة لنجل نائب الرئيس الأمريكى السابق جو بايدن فى أوكرانيا، وهو الأمر الذى وصفه ترامب، فى أحدث تغريداته بـ"الانقلاب على الشعب"، فى انعكاس صريح لثقة سيد البيت الأبيض، فى ارتفاع نسبة الرضا داخل الشارع الأمريكى، عن أداءه، خاصة فيما يتعلق بالجانب الاقتصادى.
إلا أن المفارقة الجديرة بالملاحظة هى أن التطورات الأمريكية ليست بمعزل عن العالم الخارجى، حيث أصبح الصراع بين السلطة التنفيذية من جانب، والسلطة التشريعية بمثابة عنوان رئيسى للحقبة الراهنة فى العديد من دول العالم، من أبرزها التطورات فى بريطانيا، والتى دفعت رئيس الوزراء بوريس جونسون لاتخاذ قرار بتعليق أعمال البرلمان البريطانى، على خلفية الخلاف حول الخروج من الاتحاد الأوروبى، بالإضافة إلى الصراع الأخير بين رئيس بيرو مارتن بيسكارا، وبرلمان بلاده، مما دفع إلى إجراءات متبادلة بالحل والعزل، مما يضع البلاد فى حالة من عدم الاستقرار فى المرحلة الراهنة، وكذلك ما شهدته فنزويلا قبل عدة أشهر بإعلان رئيس البرلمان تنصيب نفسه رئيسا مؤقتا للبلاد على حساب الرئيس نيكولاس مادورو.
حالة عامة.. العالم نحو صياغة جديدة لمفهوم الديمقراطية
ولعل الصراع الجديد بين السلطتين التنفيذية والتشريعية تمثل جزءا لا يتجزأ من حالة عامة يمكننا تسميتها بإعادة صياغة المفاهيم الديمقراطية، والتى تمثل نتاجا طبيعيا لعقود طويلة من فشل الديمقراطية التقليدية فى تحقيق تطلعات الشعوب، كانت خلالها الصناديق الانتخابية المؤشر الوحيد لسلامة الحياة السياسية، فى الوقت الذى اتجه فيه الساسة، بعد الحصول على أصوات المواطنين، نحو خدمة أجندات أيديولوجية، بعيدة كل البعد عن اهتماماتهم ومشكلاتهم، لتتجسد الأزمة بعد ذلك فى التظاهرات الاحتجاجية، والتى أصبحت تتركز فى معظمها أمام مقار البرلمانات، بينما تصاعد بقوة التيار الشعبوى، والذى يحمل شعارات تدور فى معظمها حول تحقيق رغبات المواطنين، بعيدا عن المبادئ العالمية الأخرى التى تشدق بها الساسة التقليديون لعقود طويلة من الزمن.
فلو نظرنا إلى النموذج الفرنسى، نجد أن مظاهرات السترات الصفراء، التى ضربت العاصمة باريس، منذ أواخر العام الماضى، لم تأتى مباشرة، وإنما نتيجة لمحاولات شعبية سابقة لتحقيق التغيير، عبر الصناديق الانتخابية، حيث تناوبت العديد من الأحزاب الفرنسية على السلطة فى العقد الماضى، وتحديدا منذ نهاية حقبة الرئيس الأسبق جاك شيراك، والذى يعد أخر رئيس فرنسى يحصل على فترتين رئاسيتين متتاليتين، ليأتى بعده ساركوزى اليمينى، ثم أولاند الاشتراكى، دون تحقيق أى تغيير ملموس فى حياة المواطن الفرنسى، لتنفجر ثورة الغضب فى وجه الرئيس الحالى إيمانويل ماكرون، الذى يمثل تيار الوسط، والبرلمان على حد سواء، حيث لم تقتصر المطالب على استقالة الرئيس، وإنما امتدت إلى حل الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان).
ثورة الشعوب على ممثليهم.. البرلمانات فشلت فى مجاراة التيارات الجديدة
ويمثل تركز المظاهرات أمام البرلمانات فى العديد من دول العالم، دليلا دامغا على ثورة الشعوب على ممثليهم، الذين سبق لهم وأن اختاروهم فى الصناديق الانتخابية، فى انعكاس صريح لفشل تلك البرلمانات فى تحقيق أهدافهم، عبر مجاراة التيار السياسى الجديد، والذى يضع مصلحة المواطن المباشرة نصب عينيه، وهو ما يتجلى بوضوح فى الشعارات الانتخابية، على غرار "أمريكا أولا"، والذى أطلقه ترامب خلال حملته فى عام 2016، أو السياسات المباشرة تجاه القضايا التى يضعها المواطنون كأولوية قصوى، كالهجرة، والأمن وغيرها.
يبدو أن الصراع الحالى هو نتيجة طبيعية لصعود التيارات الشعبوية، والتى تحمل فكرا جديدا، إلى كراسى السلطة فى بعض الدول، أو على الأقل وجودها القوى، فى الوقت الذى مازالت فيه البرلمانات تزخر بالساسة ذوى الأيديولوجيات الحزبية التقليدية، فى ظل اختلاف معايير الاختيار فى الانتخابات الرئاسية عنها فى الانتخابات التشريعية، حيث أن الأخيرة غالبا ما تعتمد على شعبية المرشح فى دائرته الجغرافية الصغيرة، بعيدا عن أية أبعاد سياسية أو حزبية أو أيديولوجية، فى حين أن انتخابات السلطة التنفيذية تكون أكثر شمولا واتساعا على المستوى الجغرافى، وبالتالى يكون التقييم فيها مختلف تماما من قبل المواطن، عند الاختيار فى كلا منهما.
الرهان على الشارع.. كيف يتجه العالم نحو حكم الفرد؟
وهنا يمكننا القول بأن التيارات الجديدة أصبحت تستلهم قوتها من الشارع بعيدا عن المؤسسات، والتى تحولت العلاقة بينها من التعاون إلى الصراع، فى ظل حالة الانقسام التى ضربت الحياة السياسية فى العديد من دول العالم، حيث أن صعود الشعبويين، وتنامى شعبيتهم، يمثل انقلابا صريحا على الأعراف السياسية التى جرى عليها العمل لعقود طويلة من الزمن، وهو الأمر الذى يفسر ظهور حالات جديدة من الانشقاق على الأحزاب التقليدية، والتوجه نحو استحداث أحزاب جديدة، كما هو الحال فى بريطانيا، والتى ظهر فيها مؤخرا عدة أحزاب جديدة ربما لا تحمل أيديولوجيات واضحة، من أجل استقطاب أكبر عدد من المواطنين، الذين يتبنون مواقف رافضة للأحزاب المتواجدة، بينما اتجهت الشعوب بوضوح نحو تأييد حكم الفرد، والذى يمثله التيار الجديد، على حساب المؤسسات التى أصبحت تمثل الديمقراطية الغربية.
ففى الولايات المتحدة، نجد أن حالة من التعاطف الشعبى، أظهرته استطلاعات الرأى، تجاه الرئيس ترامب، رغم الحملات الموجهة لعزله، فى الوقت الذى أصبح فيه الديمقراطيون لا يملكون سوى ورقة العزل للتخلص من كابوس الإدارة الحالية، والتى كشفت عجزهم عن التواصل مع المواطن الأمريكى بشكل مباشر، وهو الأمر الذى تكرر فى بيرو والتى شهدت مظاهرات مؤيدة للرئيس، بعد قرار البرلمان بعزله.