هبطت الطائرة السوفيتية فى مطار العاصمة الأردنية عمان يوم 4 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1990.. كانت فى طريقها إلى العاصمة العراقية «بغداد»، وتقل ستة أشخاص سوفييت يقودهم «يغينى بريماكوف»، العضو الاحتياطى فى المكتب السياسى للحزب الشيوعى السوفيتى، الذى أصبح رئيسا للوزراء من 1998 إلى 1999.
جاء «بريماكوف» إلى عمان مع اشتداد أزمة غزو العراق للكويت يوم 2 أغسطس 1990، وقيام الرئيس الأمريكى جورج بوش «الأب» بتكوين «تحالف دولى» لشن حرب ضد العراق.. يذكر فى كتابه «يوميات بريماكوف فى حرب الخليج»، أن الرئيس السوفيتى جورباتشوف كلفه بزيارة «بغداد» للقاء الرئيس العراقى صدام حسين لتنفيذ مهمتين هما: «الأولى، الاتفاق على السماح للخبراء السوفيات الذين يرغبون فى العودة إلى الوطن بمغادرة العراق بدون أية عراقيل.. الثانية، أن نظهر لصدام خلال المحادثات معه أنه لا جدوى أبدا من امتناعه عن تنفيذ مطالب مجلس الأمن الدولى، واستكشاف الإمكانات التى تضمن انسحاب القوات العراقية بالوسائل السلمية».
يروى «بريماكوف» وقائع رحلته التى انتهت بلقائه مع صدام حسين فى بغداد من واقع خبرته الجيدة بالمنطقة العربية، حيث كان فى ستينيات القرن الماضى مراسلا فى منطقة الشرق الأوسط لجريدة «برافدا» لسان حال الحزب الشيوعى السوفيتى، وأقام لسنوات فى القاهرة ويعتبرها «أجمل سنوات عمره»، وكان صديقا لرموز فكرية وسياسية مصرية كبيرة، أبرزهم من الكتاب، محمد عودة، محمود أمين العالم، محمد سيدأحمد، سعد الدين وهبة، كامل زهيرى، أحمد بهاء الدين، محمد حسنين هيكل، ولطفى الخولى، وآخرون..»، كان يتحدث مع هؤلاء ويحاورهم فى مقاهى الحسين، حسبما يذكر الكاتب الصحفى عبدالله السناوى فى مقاله «بريماكوف الذى لا نعرفه» المنشور في «الشروق، القاهرة، 20 مارس 2019»، مضيفا: «رغم ذلك لم يحدث أن فكر أحد فى توظيف صداقته الحميمية بهؤلاء».
يستدعى «بريماكوف» ذكرياته التاريخية حول العراق، قائلا: «معرفتى القديمة جدا بصدام حسين لم تكن سرا، وحينما كنت مراسلا لجريدة «برافدا» فى الشرق الأوسط فى الستينيات كتبت عن جولاتى فى شمال العراق، وعن لقاءاتى وأحاديثى مع الملا مصطفى البرزانى زعيم الثوار الأكراد الشهير.. والتقيت صدام حسين أول مرة عام 1969، آنذاك لم يكن رئيسا للعراق، وإنما كان واحدا من أقوى أعضاء القيادة العراقية نفوذا، والتقيت به مرارا فى السبعينيات والثمانينيات فى زياراته إلى موسكو وفى مأمورياتى فى بغداد، وبدا لى أنه قامت بيننا علاقات أتاحت لى التحدث معه بصراحة دون تكلف دبلوماسى ومع اعتبار طباعه النفسية».. يفسر «بريماكوف» قصده بتعبير «طباعه النفسية»،قائلا: «أود التنويه بأنه لابد فى التعامل مع الشخصيات السياسية العربية والشرقية عموما، لابد من أخذ نفسياتهم فى الاعتبار، وخاصة سماتهم تلك مثل الحساسية الشديدة إزاء كل ما يسمى الشرف والكرامة».
هبطت الطائرة فى عمان يوم 4 أكتوبر 1990، وهو اليوم السابق للقاء «صدام».. يذكر: «اليوم الذى سبق الوصول إلى بغداد كان مخصصا لتبادل الآراء مع الملك حسين والقادة الأردنيين الأخرين، وكذلك مع قادة منظمة التحرير الفلسطينية الذين علموا مسبقا بأننا سنزور عمان، فوصلوا إليها من تونس «مقر منظمة التحرير» برئاسة ياسر عرفات».
كان «حسين» و«عرفات» يؤيدان موقف صدام حسين، ويتذكر «بريماكوف»، أن الملك حسين وعده بدعم خطواته، كما أن الفلسطينيين وعددا كبيرا من القادة الفلسطينيين أكدوا له أنهم لا يريدون أن يسود فى الشرق الأوسط منطق إزاء الكويت، وآخر إزاء مصيرهم، كما أنهم أظهروا قلقا واضحا من الحل العسكرى لأزمة الكويت.. يؤكد بريماكوف: «انتهى الحديث بأمر أصدره ياسر عرفات بتجهيز طائرته للإقلاع كى يصل إلى بغداد قبلنا، ليبذل كما قال لنا، كل ما فى وسعه حتى يكون لقاؤنا مثمرا مع صدام حسين».
يتذكر «بريماكوف»، أن الطائرة أقلعت به والوفد المرافق له من عمان إلى بغداد فى نفس اليوم الذى وصل فيه «4 أكتوبر 1990».. يؤكد: «استقبنا طارق عزيز، وزير الخارجية العراقية، فى المطار، وسألنى إن كنت أود الحديث معه أولا أو مع صدام حسين مباشرة، أجبته بأننى أريد تبادل الآراء معه أولا»..يضيف: «كان أصعب حديث جرى بينى وبين طارق عزيز وحتى مع أى ممثل عراقى عموما، فمحدثى ركز تماما وكما جرى قبل ذلك بشهر فى موسكو على إظهار «انتماء الكويت تاريخيا وسياسيا واقتصاديا للعراق، وذكر التواريخ والأرقام والأحداث والناس، وقدم التاريخ من جانب واحد لإظهار حقانية ومشروعية دخول القوات العراقية الكويت، وساد حديث طارق عزيز نبرة استياء حادة وعدم الرضا إزاء الموقف السوفيتى وسياسة الاتحاد السوفيتى الذى كان من الواجب عليه أن يتخذ سلوكا آخر نظرا لمعاهدته مع العراق».. يذكر بريماكوف، أن «عزيز هرب من الإجابة على سؤالنا: لماذا لم يقم طرف المعاهدة الثانى حتى بإخطار موسكو حين فكر ثم نفذ غزو الكويت؟».
انتقل «بريماكوف» فى الحديث مع «عزيز» إلى قضية أخرى وهى تقديم الإمكانيات للمواطنين السوفيت الذين يرغبون مغادرة العراق، وعددهم حوالى 5 آلاف خبير.. فى اليوم التالى جرى لقاء صدام مع بريماكوف، فماذا دار فيه؟