التفت الرئيس مبارك إلى الكاتب المفكر الدكتور محمد السيد سعيد، قائلا: «ماتضيعوش البلد من إيديكم.. الذين يطالبون بالإصلاح يريدون العودة إلى ما قبل 1952، عندما كانت تشكل حكومة كل 6 أشهر.. هل تريدون هذا الوضع؟».
رد سعيد، حسبما نشرت بوابة الأهرام يوم 25 يوليو 2012: «ياريس القضية قبل 1952 أنه كان لدينا ملك يريد الاستئثار بالسلطة مما حدا به أن ينقلب سبع مرات على الدستور، والدستور الديمقراطى يكفل الاستقرار لأى بلد، وعلى أى حال أنا لدى تصور عن هذا التعديل يمكننى تقديمه لسيادتك فى ورقة مكتوبة عن إصلاح سياسى ودستورى».. رد مبارك ساخرا: «الورقة دى حطها فى جيبك، وأنت متطرف، وعلى فكرة بقى أنا بافهم أحسن منك».
جاءت كلمات مبارك وتعليق «سعيد» أثناء خروج الرئيس من معرض القاهرة الدولى للكتاب بعد انتهاء لقائه السنوى عام 2005 بمثقفين وسياسيين ومفكرين، والذى شهد مناقشة ساخنة بين «الرئيس» و«المفكر» شملت قضايا كثيرة حول الحريات العامة وقضايا حقوق الإنسان، وقدم «سعيد» نفسه للرئيس على أنه أحد مؤسسى حركة «كفاية» التى أعلنت عن نفسها فى عام 2004، ونظمت أنشطة احتجاجية واسعة تحت شعار «لا للتمديد،لا للتوريث».
فوجئ معظم المشاركين فى لقاء الرئيس بما طرحه «سعيد»، لأنهم لم يتعودوا على مثلها فى هذه اللقاءات منذ أن بدأت فى سنوات سابقة، غير أن التنقيب فى سيرته منذ أن بدأت فى مسقط رأسه بمدينة بورسعيد «مواليد 28 يوليو 1950»، تقود إلى أنه فعل ما أملاه عليه ضميره السياسى والنضالى والإنسانى، فهو «نصير الإنسان فى أوسع معانيه، لم ترهبه سلطة، ولم يغره منصب، فكان نموذجا لمفكر حق»، حسبما يذكر الدكتور أحمد يوسف فى مقاله عنه «لكن الحلم يبقى» المنشور فى جريدة «الشروق 15 أكتوبر 2009».
هو وفقا للباحث الدكتور أحمد منيسى فى كتابه «المشروع الفكرى لمحمد السيد سعيد»: «ابن الطبقة المتوسطة، وابن لأب يعتز بكونه عاملا بهيئة قناة السويس، وأم كان يربط الحديث دائما عنها بمصر مشبها كليهما بـ«الحلم الكبير الذى يجب أن يعيش ويموت الإنسان من أجله..وهو الذى شاهد بورسعيد، وكان ما يزال طفلا تقاوم ببسالة هجمات القوات البريطانية والفرنسية المعتدية عام 1956 بما جعلها مثالا للصمود فى التاريخ المصرى».. يؤكد منيسى: «هو المنظٍر الأكثر عمقا وإحاطة للتطورات المختلفة التى شهدها المجتمع المصرى خلال العقود الستة الأخيرة، وكان صاحب مدرسة فكرية متميزة، وهو أستاذ لجيلين على الأقل من الباحثين فى العلوم السياسية، ومن السمات الكبرى لمشروعه الفكرى إيمان صاحبه المطلق بقيمتين أساسيتين، وهما، كرامة الإنسان وحريته».
يتذكر الدكتور أحمد يوسف وقت أن كان معيدا فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة كيف رآه وهو طالب ينبئ بما سيكون عليه فى المستقبل.. يقول «يوسف»، أن «سعيد» كان طالبا أثناء اعتصام طلاب الجامعة الشهير فى قاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة عام 1972 «التحق بكلية الاقتصاد عام 1968»، وحين أعلن قائد الاعتصام الطالب أحمد عبد الله رزة النتائج التى توصل إليها مع السلطات المعنية، وفى الوقت الذى بدا فيه الطلاب مقتنعين، شق الصمت صوت «سعيد» بالرفض معلنا أن هذا تراجع.. يؤكد «يوسف» أن هذا الرفض عبر مبكرا عن «الجمع بين العمق الفكرى غير المألوف والصلابة السياسية والتوجه الثورى».. يضيف: «تغيرت مياه كثيرة بعد ذلك فى نهر الحياة فى مصر وغيرها، وتلاطمت أمواج التغيرات التى شهدها الوطن بفعل فاعل، بالإضافة إلى ما شهده العالم من تغيرات جذرية غير متوقعة، فحدثت تحولات فكرية لدى معظم أفراد النخبة الفكرية المصرية، غير أنه بينما بدا التحول بالنسبة للكثيرين أقرب إلى الانقلاب، فإن تحول محمد السيد سعيد كان تطورا إلى الأفضل.. دخلت الليبرالية الحقة إلى منظومته الفكرية عبر اقتناع حقيقى وليس لمجرد استكمال «الديكور» الفكرى كما فعل الكثيرون، وإن نطق سلوكهم بعكس ما يقولون».
عاش «سعيد» نموذجا فى التوحد بين القول والفعل، ففى عز توهجه الفكرى، ذاق مرارة الاعتقال والتعذيب الوحشى شهرا عام 1989، لتوقيعه على بيان حقوقى يدين اقتحام قوات الأمن مصنع الحديد والصلب وإطلاق النار على العاملين فيه.. وكنت أنا ممن أسعدهم الحظ بمعرفته عن قرب، حينما جمعنى العمل تحت قيادته عدة شهور عام 2005 ، رأيته خلالها يوميا عدة ساعات، كانت ثرية فى المناقشات معه وهو الموسوعى النادر، كما رأيت خلالها معنى أن يتطابق سلوك المفكر والمناضل مع ما يردده من قناعات، ومعنى أن يتمتع الإنسان بفضيلة الاستغناء، وعرفت منه قصته مع عالم الإبداع فى الكتابة الأدبية التى هجرها مع قراره بالتفرغ للبحث، واتخاذه قرارا بحرق كشكول فيه كل قصصه القصيرة حتى ينهى علاقته بهذا العالم فى الإبداع.. وشاهدت ما تجود به يمناه دون أن تعرف يسراه نحو رفاق الطريق وغيرهم الذى تعثرت بهم سبل الحياة.