حاصرت القوات الإسرائيلية الاستراحة التى يختبئ فيها الضابط محمود الجيزى، بطل الصاعقة البحرية المصرية، وعبر مكبرات الصوت طالبت استسلام من بداخلها، لكن «الجيزى» الذى كان وحده صمم على المقاومة، فخاض معركة عظيمة استمرت 11 ساعة انتهت باستشهاده يوم 24 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1973، حسبما يذكر الرائد سمير نوح رفيقه فى السلاح والعديد من العمليات البطولة ضد العدو الإسرائيلى، فى حوار بجريدة الصباح «أسبوعية، مستقلة، القاهرة» يوم 10 أكتوبر 2016.
استشهد «الجيزى» فى اليوم التالى لقرار مجلس الأمن الدولى بوقف إطلاق النار على جبهات القتال فى حرب 6 أكتوبر 1973، وحسب حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى للرئيس السادات، فى مذكراته «أمن مصر القومى فى عصر التحديات»: «واصلت القوات الإسرائيلية عملياتها صباح 24 أكتوبر متجاهلة قراروقف إطلاق النار».. يضيف: «كانت إسرائيل تتطلع إلى احتلال إحدى أو كلا مدينتى القناة، السويس والإسماعيلية، حتى يرتكز اختراقها للقناة إلى دعامة تستند إليها سياسيًا وإعلاميًا»..يتذكر «إسماعيل»: «كان يوم 24 أكتوبر طويلًا وثقيلًا، فمنذ الفجر قررت القيادة الإسرائيلية أن تسارع بالهجوم لاحتلال مدينة السويس، وكانت معركتها هى ذروة الصدام خلال هذه الحرب، لم تكن معركة شعب مدينة السويس وحده، بل معركة شعب مصر، ولم تكن الهزيمة أو الانتصار فى معركة السويس أمرًا يخص شعبها وحده، بل يمثل هزيمة أو انتصار شعب مصر».
فى هذا اليوم كان البطل «محمود الجيزى» يواصل أسطورته القتالية فى مقاومة العدو، والتى بدأها قبل سنوات، فهو المقاتل فى سلاح الصاعقة البحرية، والتحق بالمجموعة «39 قتال» بقيادة البطل إبراهيم الرفاعى، التى أسستها المخابرات الحربية بقيادة اللواء محمد أحمد صادق يوم 24 يوليو 1969، وحسب نوح: «نفذ الجيزى وحده 60 عملية هجومية على نقاط العدو، وكان برتبة مساعد أول، وأثناء زيارة السادات للمجموعة عام 1971 رقاه إلى ملازم، وكان من المجموعة التى أسرت أول جندى إسرائيلى بعد 1967 يوم 26 أغسطس 1968، وقتل فيها 6 إسرائيليين، كما شارك فى عملية لسان التمساح 19 إبريل 1969 بقيادة إبراهيم الرفاعى انتقامًا لاستشهاد الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة يوم 9 مارس 1969، وكانت حصيلتها حسب محمد الشافعى فى كتابه «المجموعة 39 قتال»: «تدمير الموقع ومخازن الذخيرة به وتدمير عربة نصف جنزير، وإعطاب دبابتين، وقتل كل جنود العدو فى الموقع ولا يقل عددهم عن أربعين».
واصل «الجيزى» بطولاته الفريدة فى حرب أكتوبر، ويكشف «نوح» جانبًا من أسرارها قائلًا: «أثناء إحدى عمليات أكتوبر كان ضمن المجموعة التى تصدت لعملية إنزال بحرى إسرائيلى على قاعدة ميناء الأدبية، وهى القاعدة البحرية بالسويس فى محاولة للوصول إلى السويس عن طريق الخليج، وتعامل مع زملائه ضد جنود الإنزال الذين كانوا الأقوى لأنهم مزودون بمعدات وأسلحة تفوق ما لدى المجموعة المصرية، وأمام صلابة الجنود المصريين، فجر الجنود الإسرائيليون المبنى فاستشهد كل من فيه باستثناء «الجيزى» الذى قفز من نافذة الدور الثانى ليسقط على الأرض قبل انفجار المبنى بثوان، وزحف حتى وصل إلى إحدى استراحات مهندسى شركة السماد على الطريق فى المنطقة بين الأدبية وجبل عتاقة».
يؤكد «نوح»، أن «الجيزى» اختبأ 9 أيام وحيدًا لا يملك شيئًا سوى البندقية والخنجر، وبدأ أول جولاته الليلية بالخروج إلى جبل عتاقة ليصطاد أول جندى حراسة وقتله، وكررها 9 أيام، يختفى خلالها ثم يخرج ليلًا ليذبح عسكرى إسرائيليا بالخنجر الذى بحوزته ثم يأخذ المؤن والسلاح الخاص بهذا العسكرى، ويعود بهما إلى كهف اختبأ فيه.
بلغ عدد القتلى الإسرائيليين 9 دون معرفة كيف يتم قتلهم، فكثفت القوات الإسرائيلية جهودها، وكان مفتاح الحل عند غفير منطقة السماد الذى تعرض لإرهاب وتعذيب وتهديد بقتل بناته وزوجته أمام عينيه، فحدثهم عن شبح يخرج ليلا من الكهف ثم يعود، وبناء على هذه المعلومة تحركت القوات الإسرائيلية، وحاصرت المكان، وشغلت مكبرات الصوت تطلب استسلام من بداخله ظنا منهم أنهم مجموعة، ورفض الجيزى الاستسلام وقاتل وحده معركة استمرت 11 ساعة لم تنته إلا بإطلاق القنابل على الكهف الذى انهار فوقه.
يكشف نوح، أن أصدقاء الجيزى ظلوا فى حسابات معقدة بشأن مصيره.. هناك من احتسبه شهيدًا، وهناك من رفض ذلك، حتى كشف سائح إسرائيلى السر بعد سنوات أثناء زيارة له لشرم الشيخ.. كان هذا السائح على يخت خاص بالسياحة والغطس يملكه أحمد حسام شاكر..عرف السائح أن «شاكر» كان ضابطا فى سلاح البحرية المصرية وأحد المشاركين فى حرب أكتوبر، فسأله: «هل تعرف مقاتلا يسمى محمود على الجيزى».. رد شاكر مسرعًا بالسؤال عن مصيره، فكشف السائح أنه كان ضمن القوات الإسرائيلية التى قاتلت «الجيزى»، وحسب نوح: «حكى الإسرائيلى كيف أظهر الجيزى بطولات نادرة مما دفعهم لدفنه بعد استشهاده بالصورة التى تليق ببطولته، مؤدين له التحية العسكرية أثناء مراسم الدفن».