كانت الساعة التاسعة صباح 17 نوفمبر، مثل هذا اليوم، عام 1899، حين وصل الخديو عباس الثانى إلى مكان الاحتفال فى بورسعيد لرفع الستار عن تمثال «فردينان ديلسيبس» صاحب مشروع القناة، حسب تعبير أحمد شفيق باشا رئيس الديوان الخديوى.. سافر «عباس الثانى» ومعه رجاله ونظاره من الإسكندرية يوم 16 نوفمبر، ومن الإسماعيلية ركبوا باخرة إلى بورسعيد، وباتوا ليلتهم.
يقدم «شفيق باشا» صورة تفصيلية فى مذكراته عن وقائع الاحتفال الذى حضره هو، كما حضرت قرينة ديلسيبس، وولده شارل وقرينته وآخرون من أولاد ديلسيبس وبناته، و«الغازى مختار باشا» المفتش العام للدولة العثمانية فى مصر، والبرنس عمر طوسون، والبرنس عزيز بك حسن والنظار «الوزراء».
يذكر «شفيق» كلمات المديح التى أطلقها الخديو «عباس الثانى» فى حق ديلسيبس، الذى وقع عقد امتياز إنشاء القناة يوم 30 نوفمبر 1854 مع صديقه «سعيد باشا» والى مصر، وحصل على امتيازات مجحفة بحقوق مصر.. وفيما أفرط «عباس الثانى» فى مدح ديلسيبس، لم يتذكر ولو بكلمة واحدة عشرات آلاف الفلاحين المصريين الذين حفروا القناة بالسخرة، ومات الآلاف منهم تحت ترابها جوعا وعطشا وقهرا، فكانوا هم البطل الحقيقى لهذا المشروع.. يذكر الدكتور عبد العزيز الشناوى فى كتابه المهم «السخرة فى حفر قناة السويس»: «كانت السخرة فى حفر قناة السويس، تعبئة مدنية فرضت على الشعب المصرى لخدمة الشركة، وسيظل الأسلوب الذى اتبع فى حفر القناة وصمة فى تاريخ الشركة، ومثلا صارخا لظلم حكم مصر من أسرة محمد على، ورمزا يشير إلى استغلال أوروبا المشين للشعوب الشرقية».. يؤكد: «القانون رقم 285 لسنة 1956 الذى أصدره الرئيس جمال عبدالناصر بتأميم شركة القناة لهو تعويض جزئى عن العرق والدموع والدماء التى بذلها الشعب المصرى فى حفر القناة».
بعد مراسم الاستقبال، استأذن رئيس مجلس إدارة الشركة، البرنس «دار نبرج» من الخديو برفع الستار عن التمثال فأذن له، وصدحت الموسيقى وعلا التصفيق، ووقف الخديو وألقى كلمته التى أفرط فيها مدحا فى «ديلسيبس».. قال: «أيها السادة: إنكم تعلمون جميعا تاريخ حفر ترعة السويس البحرية، والمنافع الجمة التى عادت على العالم بأسره، ومضى اليوم ثلاثون عاما على اليوم الذى تمكن فيه فرديناند ديلسيبس بقوة ذكائه وعلى همته من تحقيق أمنية طالما تعلقت بها الآمال قبله، وهى وصل البحرين الأبيض والأحمر، ولذلك هنأه العالم المتمدين وشكره فى مهرجان لم يزل بهاؤه وأبهته حاضرين فى الأذهان، فكان ذلك خير تمجيد لعمل عظيم مثل هذا»، إلا أنه كان من الواجب أيضا بعد وفاته تخليد ذكراه، بنقل صورته إلى الخلف، ويسرنى أن أرى شركة الترعة قد قامت بهذا الواجب، وأشكر مجلس إدارتها على دعوتى لهذا الاحتفال فإنه ساعدنى على اتباع سنة آبائى الفخام، نحو هذا الرجل العظيم، بأن أحضر بنفسى وأشارككم فى تعظيم قدره بإقامة هذا التمثال».
أتم «عباس الثانى» كلمته وصافح الجميع.. يتذكر شفيق: «صدحت الموسيقى بالسلام الخديوى، ومثل بين يديه رئيس الشركة وأعضاؤها، فقدموا شكرهم على ما تفضل به سموه، ثم تقدم إلى المنصة رئيس مجلس إدارة الشركة فألقى خطبة مطولة خص فيها الخديو بقوله: «إن وجود سموكم فى هذا الاحتفال وما نطقتم به من العبارات يبعث ألسنتنا بالشكر الجزيل والثناء الجميل.. إنكم يا مولاى اقتفيتم آثار أجدادكم، وسلكتم سبيلهم فأتيتم بما يدل على اهتمامكم السامى بالعمل العظيم والأثر المخلد، الذى تم فى عهد ساكنى الجنان المغفور لهما سعيد باشا وإسماعيل باشا بواسطة المسيو فردينان ديلسيبس.. إن هذا العمل العظيم ينمو ويتسع نطاقه كل يوم وتزداد أهميته شيئا فشيئا فى أحوال العالم بأسره، فكأن ساكن الجنان محمد سعيد باشا قد قرأ صحيفة المستقبل حينما طلب أن تكون شركة قناة السويس شركة عمومية، ونحن نجتهد فى أن تكون هذه صبغتها على الدوام، لما يترتب على ذلك من الفائدة للعالم بأسره، ولقد قلتم يامولاى ذات يوم «إن مصر الحارسة الطبيعية لقنال السويس»، وإنه ليبدو لى من خلال هذه الكلمات أثر اتجاه رغائبكم الشريفة إلى إبقاء ما كان يتمناه أجدادكم، من أن يكون القنال صلة ما بين الشرق والغرب، وكفالة للسلم والسعادة لجميع الشعوب».
يذكر «شفيق» أن رئيس الشركة نوه بحسن رعاية سمو الخديو، وشكره على التفضل بالحضور وكرر عبارات الإخلاص، وبعد ذلك ألقى المسيو «دوفوجيه» خطابا فى تاريخ القناة، وأعقبه شارل نجل ديلسيبس، ثم انفض الاحتفال، وفى مساء نفس اليوم زينت الشركة إدارتها فى الميناء بالأنوار والأعلام، ودعت نحو ثلاثمائة إلى حفلة تقام على أحد وابورات الشركة..يؤكد شفيق: «عند الساعة العاشرة ذهبنا مع الخديو إلى الحفلة، فبقينا إلى منتصف الليل، وفى الصباح غادرنا بورسعيد إلى القاهرة».
بقى التمثال رمزا للسيطرة الأجنبية على مصر، حتى أقدمت المقاومة الفدائية فى بورسعيد على نسفه يوم 24 ديسمبر 1956، أثناء العدوان الثلاثى«بريطانيا وفرنسا وإسرائيل» على مصر، وتم حفظه فى المخازن، غير أن هناك من يتجاهل تاريخ هذا «المحتال الفرنسى»، ويطالب بإعادة نصبه من جديد.