أصاب الذعر أحمد عرابى، زعيم الثورة العرابية، حين استمع من محاميه الإنجليزى «برودلى» شروط المصالحة المقترحة منه، كى لا يتم الحكم عليه بالإعدام من المحكمة العسكرية التى كان يحاكم أمامها بعد فشل ثورته بهزيمته أمام القوات الإنجليزية يوم 13 سبتمبر 1882.
تشكلت المحكمة العسكرية بقرار من الخديو توفيق، وترأسها محمد رؤوف باشا، وتولى المحامى الإنجليزى «برودلى» الدفاع عن عرابى ورفاقه من قادة الثورة، ويسجل وقائع المحاكمة ودفاعه فى كتابه «كيف دافعنا عن عرابى وصحبه؟»، موضحا فيها كيف تولدت فكرة المصالحة بإلغاء عقوبة الإعدام، ويكون النفى بدلا منها.
تولى «برودلى» الدفاع عن عرابى بترشيح من صديق عرابى المقرب، الإنجليزى «بلنت»، ومؤلف كتاب «التاريخ السرى للاحتلال الإنجليزى لمصر»، ويكشف فيه أسرارا كثيرة بينها محطة علاقته الشخصية مع عرابى وإعجابه الشديد به.. يتذكر «برودلى»: «كانت تفاصيل المصالحة على الوجه التالى: كل الاتهامات الموجهة ضد الباشاوات: أحمد عرابى، محمود سامى البارودى، طلبة عصمت، على فهمى، عبدالعال حلمى، يعقوب سامى، محمود فهمى، فيما عدا العصيان البسيط ستسحب، وسيستدعون للمثول أمام المحكمة العسكرية بتهمة العصيان البسيط الذى بموجبه سيعترفون بأنهم مذنبون».
فى سيناريو المصالحة كان سيترتب على اعتراف المتهمين بأنهم مذنبون، عقوبة جديدة، يذكرها برودلى قائلا: «كان من المفروض أن تسجل عقوبة الإعدام فى هذه الدعوى، بيد أن المرسوم المعدل للعقوبة هو النفى من مصر، ومن المفروض أن يُقرأ على الفور، وسيفقد المسجونون رتبهم وأملاكهم، بموجب مراسيم لاحقة، ولكن لن تصادر أملاك زوجاتهم، وعلى المسجونين أن يتعهدوا بالتوجه إلى أية جهات من الممتلكات البريطانية المحددة لهم، ويبقون فيها حتى يسمح لهم بمغادرتها، ونتيجة لمصادرة أملاكهم ستتكفل الحكومة المصرية بتخصيص راتب مناسب لإعانة السبعة المسجونين وعائلاتهم فى المنفى، وستتكفل الحكومة المصرية بنفى المنفيين على نفقتها الخاصة إلى البلد المحدد لهم الإقامة فيه».
يؤكد برودلى: «قبل شروط المصالحة، كان هناك شيئان ضروريان، هما استشار
«مسيو بلنت» «صديق عرابى المقرب»، تلغرافيا ثم الحصول على موافقة موكلينا أنفسهم».. يعلق مندهشا : «المعروف أن الحفاظ على أى شىء سرا فى بلد شرقى، يكاد يكون أمرا مستحيلا، ولكن مما يبعث على الدهشة خلافا لهذه القاعدة، أنه لم يكن هناك أكثر من شك فى أن شيئا غير عادى يحدث وتفوح منه رائحته فى مصر ما بين 27 نوفمبر 1882 وأول ديسمبر،عندما لقى المشروع الموافقة التامة من كل الأطراف».
يكشف: «فى 29 نوفمبر 1882، بعد ترو مناسب، بعث إلينا مستر بلنت بموافقته على المصالحة، وطلب منا أن نتذرع بحسن التصرف الكامل بالنسبة للأسلوب الذى سنتبعه، لقد أحس معنا أنه لا يمكن فى الوقت الراهن التوصل إلى شروط أفضل، وفى ثقة ترك التبرئة التامة لعرابى، للتاريخ وللحكم الهادى فى المستقبل».. يؤكد: «حتى هذه المرحلة المتقدمة من المفاوضات لم يكن عرابى أعد نفسه لمحاكمته، ويبدو أنه كان ينتظر المحاكمة بدون أدنى خوف.. كان قلقه الرئيسى هو على مصير من كان يدعوهم «إخوانه فى الأسر».
ذهب «برودلى» لمقابلة عرابى لبحث المصالحة معه.. ينقل أجواء المقابلة بكل ما فيها من دراما يكشف سمات إنسانية عميقة ونبيلة فى شخصية عرابى.. يتذكر «برودلى»، أنه توجه إلى مقابلة عرابى فى زنزانته بالسجن يوم 29 نوفمبر، مثل هذا اليوم عام 1882.. يؤكد: «فى بضع كلمات موجزة ما أمكننى ذلك، شرحت له الاتجاه الذى اتخذته الأمور،وذكرت له باختصار شروط المصالحة المقترحة،بدا عليه بعض الذعر فى أول الأمر، لم يبد بكل تأكيد أى مزيد من الحماس يوحى برضاه عن أى ترتيب اتخذ، اعترف صراحة بأنه كان يفضل المحاكمة، إذ كان يريد أن تعرف كل أوروبا بقصته، وأن يواجه متهميه وجها لوجه فى محاكمة علنية».. ينقل «برودلى» عن عرابى، أنه تساءل: «ألا يمكن للضوء الذى يلقى الآن على الشؤون المصرية أن تمهد السبيل إلى الإصلاحات التى فشلت أجهزته فى تحقيقها؟.. يضيف: «ثم شرحت له بعد ذلك مخاوفى من احتمال عدم توسط إنجلترا لو أن المحكمة المصرية حكمت عليه بالسجن طويل الأجل، فأجاب: هذا صحيح، أننى أعرف تمام المعرفة أن مصيرى أنا وحدى يتوقف على إنجلترا»، وكان تفكيره الذى أعقب ذلك هو فى صحبة المسجونين، وقال متسائلا:
لو أننى قبلت هذه الشروط التى تتحدث عنها، ماذا سيكون مصير إخوتى المسجونين؟.. أخبرته بأننى لا أشك فى أنهم سيكون لهم نصيب فى الرأفة التى سيظهرونها نحوه، ومرة أخرى تردد، ثم قال متسائلا: «كيف يمكننى أن أقول أنا عاص؟، واستطرد: هل يمكنهم أن يدعونى عاصيا لامتثالى لإرادة الشعب المصرى؟، يعلق «برودلى»: «إن إجابة منطقية عن هذا السؤال كان من الصعب الإدلاء بها، لاحظت فقط أنه هو نفسه «عرابى» قد أقر بأن مصيره يتوقف فحسب على إنجلترا.
كيف أجاب برودلى على سؤال عرابى: كيف يمكننى أن أقول أنا عاص؟، وكيف تواصل باقى لقائهما».