فى الوقت الذى تمثل فيه قمة نورماندى الرباعية، بمثابة دفعة قوية نحو حل الأزمة المندلعة بين روسيا وأوكرانيا منذ عام 2014، على خلفية قيام موسكو بضم شبه جزيرة القرم، يبدو أنها تحمل فى طياتها العديد من الأبعاد الأخرى، والمرتبطة إلى حد كبير بالعلاقة بين أوروبا الغربية وموسكو، فى ظل انعقادها بالعاصمة الفرنسية باريس، ومشاركة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، حيث تبقى القيادة الحاكمة فى كلا من فرنسا وألمانيا هى أكثر القيادات إيمانا بضرورة الحفاظ على أوروبا الموحدة، رغم التحديات الكبيرة التى تواجهها سواء من داخل القارة، على غرار "بريكست"، أو من خارجها فى ضوء رغبة الإدارة الأمريكية الحالية فى تفكيك الاتحاد الأوروبى.
ولعل الاستضافة الفرنسية للقمة التاريخية، والتى شهدت أول لقاء بين الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، ونظيره الأوكرانى فلاديمير زيلنيسكى، والمشاركة الألمانية، تمثل انعكاسا صريحا لتغير التوجهات الأوروبية إلى حد كبير، فى ظل تقارب ملحوظ بين القارة وموسكو، يوازيه توتر واضح فى العلاقة بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة، جراء السياسات الأمريكية، التى تهدف إلى التضييق على الحلفاء التاريخيين، سواء اقتصاديا، وهو ما يبدو واضحا فى الإجراءات الجمركية التى اتخذتها إدارة ترامب بصدد الواردات القادمة من الدول الأوروبية منذ بداية حقبته، أو سياسيا، عبر إغلاق الطريق أمام أى دور أوروبى فى القضايا الدولية الكبيرة، وهو ما بدا فى تفضيل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للوساطة اليابانية مع طهران على حساب نظيره الفرنسى إيمانويل ماكرون، الساعى لاستعادة نفوذ باريس على الساحة الدولية.
نافذة جديدة لماكرون
وتمثل الأزمة الأوكرانية نافذة جديدة لماكرون، يمكنه من خلالها الهروب من التضييق الأمريكى، والذى لم يقتصر على مجرد القضية الإيرانية، وإنما امتد إلى الانسحاب من اتفاقية باريس المناخية، وبالتالى تقويضها، والتى تمثل أحد منافذ التأثير الفرنسى، خاصة وأن المسألة المناخية تعد أحد أكثر القضايا المحورية على الساحة الدولية، وهو ما يفسر الحماسة الفرنسية لعقد القمة، خاصة وأن ثمة انطباعا لدى جميع المتابعين باختلاف المعطيات المتعلقة بالأزمة، وعلى رأسها الانفتاح الروسى على الرئيس الأوكرانى الجديد، فلاديمير زيلنيسكى، والذى يبدو أقل عداء تجاه موسكو، إذا ما قورن بسلفه بترو بورشينكو، والمعروف بمولاته لواشنطن، وهو ما بدا واضحا فى إفراج موسكو عن سفن احتجزتها قبل عام عند مضيق كيرتش، فى بادرة تمثل نقطة أمل على طريق العلاقة بين البلدين.
وتحول الرهان الفرنسى من الجانب الأمريكى مباشرة إلى روسيا، فى إطار الصراع المحتدم فى المرحلة الراهنة، حيث يسعى الرئيس الفرنسى إلى استرضاء موسكو، للحصول على دعمها للقيام بدور بارز فى القضايا المرتبطة بها، وهو ما يبدو واضحا ليس فقط فى استضافة القمة التاريخية، وإنما قبل ذلك عبر تبنى موقفا مناوئا للناتو، والذى اعتبره "ميت إكلنيكيا"، وكذلك لتوجه الحلف نحو أوروبا الشرقية، حيث اعتبر أن روسيا لم تعد الخصم للمعسكر الغربى، داعيا إلى الانفتاح على موسكو فى المستقبل القريب، وهو الأمر الذى يعكس نجاحا روسيا منقطع النظير فى اقتحام أوروبا الغربية على حساب واشنطن، سواء عبر ذراع الطاقة، أو نتيجة السياسات الأمريكية التى يراها قطاع كبير من المتابعين بأنها عدائية تجاه القارة العجوز.
غياب الاتحاد الأوروبى
وعلى الرغم من مشاركة أكثر قادة أوروبا إيمانا بالوحدة الأوروبية فى القمة (ماكرون وميركل)، يبقى الاتحاد الأوروبى غائبا، وذلك بالرغم من المحاولات الأوكرانية المتواترة للانضمام إليه، وبالتالى يبقى الجانب الروسى هو الطرف الأقوى فى المعادلة الحالية، فى ضوء مساعى ماكرون لاسترضاء موسكو، فى الوقت الذى تحاول فيه ألمانيا التزامها بقدر من الحياد، خاصة مع توتر العلاقة مع روسيا على خلفية مقتل أحد القادة الشيشان على الأراضى الألمانية، وهو ما دفع برلين إلى اتهام روسيا، وبالتالى قامت بطرد دبلوماسيين روس من أراضيها.
إلا أن برلين ربما لا تريد أن يطغى التوتر الأخير على العلاقة مع روسيا، خاصة وأنها ترتبط بمشروعات مهمة فى مجال الطاقة معها، وهو الأمر الذى أثار امتعاض واشنطن قبل ذلك، حتى أن الرئيس ترامب سبق له وأن اتهم ميركل بالتبعية لموسكو، وبالتالى فهى ربما لا يمكنها تجاوز الخطوط الحمراء مع روسيا فى مارثون المفاوضات مع أوكرانيا، فى الوقت الذى تسعى فيه فرنسا نحو انتهاج دبلوماسية جديدة تقوم على تنويع التحالفات بعيدا عن التبعية لأى طرف، سواء كان الولايات المتحدة أو روسيا، عبر تبنى دبلوماسية من شأنها الحفاظ على مسافة متساوية مع كلا منهما.
هل انقلب ماكرون على الاتحاد الأوروبى؟
الرئيس الفرنسى سعى إلى استخدام قمة نورماندى الرباعية لتقديم نفسه من جديد باعتباره قادرا على المساهمة فى إنهاء الصراعات الدولية، كما أنها محاولة للحصول على مباركة موسكو للدور الفرنسى، بعدما فشلت فى الحصول على دعم واشنطن من قبل، ولكن يبقى التحرك بعيدا عن العباءة الأوروبية، وهو ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كان ماكرون اتخذ منحى جديد، يحاول من خلاله الخروج عن مظلة الاتحاد الأوروبى، على الأقل فيما يتعلق بالموقف من القضايا الدولية الأكبر فى العالم.
ويبدو الموقف الفرنسى من أوروبا واضحا منذ بداية حقبة ماكرون، والذى سعى إلى تقديم الدعم لفكرة الوحدة الأوروبية، واضعا نفسه فى موقع المنافس القوى للقيادة الألمانية للاتحاد الأوروبى، إلا أن التضييق الأمريكى أعاقه، بينما لم تنصفه دول القارة العجوز، والتى رفضت التخلى عن تحالفها مع واشنطن، لصالح حلفاء أخرين، عبر تنويع التحالفات، وإنهاء حالة الاعتماد الأوروبى المطلق على الإدارة الأمريكية، وهو النهج الذى استمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك بالرغم من السياسات العدائية الأمريكية، وبالتالى فإن إصرار ماكرون على التحرك منفردا نحو التقارب مع روسيا يمثل بادرة انفصال بين باريس والاتحاد الأوروبى فى المرحلة المقبلة.