كان الوقت صباحا يوم 12 ديسمبر، مثل هذا اليوم 1882، حين ذهب المحامى الإنجليزى «برودلى» إلى قصر عابدين لمقابلة الخديو توفيق فى اجتماع خاص بينهما.. جاءت المقابلة بعد انتهاء «برودلى» من الدفاع عن «عرابى» وزملائه من قادة الثورة أمام المحكمة العسكرية التى قضت يوم 3 ديسمبر 1882 بنفى عرابى وزملائه الستة من قادة الثورة.
أتاحت هذه المقابلة لبرودلى أن يتحدث مباشرة، ويستمع إلى الرجل الذى حافظ على عرشه مقابل احتلال الإنجليز لمصر، فاستحق وصف «الخائن» عن جدارة.. يسجل «برودلى» تفاصيل المقابلة فى كتابه «كيف دافعنا عن عرابى وصحبه؟»، ترجمة: عبد الحميد سليم»، يذكر أن أبواب القصر كان يحرسها حراس بريطانيون، وبعد تناول القهوة فى غرفة رئيس المراسيم فى الطابق الأسفل، قاده «تونيو بك» إلى سلم عريض من المرمر يؤدى إلى غرفة مكتب ضخمة مؤثثة بأثاث فرنسى، وبها ساعات كثيرة، وشمعدانات عديدة، والسجاد المزخرف بالأسلوب الشرقى، وكان «توفيق جالسا على كنبة على الطرف الأقصى من الغرفة، وكان هناك شخص آخر مندثرا كله، ويحتل كرسيا على مسافة بعيدة».
قدم توفيق الشخص الجالس على الكرسى إلى برودلى، وأخبره فى الوقت نفسه ألا يعيره اهتماما لأنه لا يستطيع أن يتحدث أو يفهم أية لغة أوربية.. يتذكر «برودلى»: «بعد ذلك سمعت مصادفة أن من كان حاضرا هو رئيس الأساقفة الأقباط «البابا».
يصف «برودلى»، توفيق: «قصير القامة، مكتنز وعصبى، ولم يكن ينقصه الذكاء على الإطلاق، كانت عيناه وفمه تكشف بوضوح عن ضعف خطير فى الشخصية، وبالرغم من أن تعليمه كان كله فى مصر، إلا أنه كان يجيد اللغة الفرنسية تماما، وكان على إلمام طيب جدا باللغة الإنجليزية..يضيف: «كان سلوك توفيق سلوكا قلقا بصورة دائمة لا يمكنه التحكم فيه مما يعطى دليلا يمكن أن تخطئه على تردده التام فى الوصول إلى الغرض.. هذا العجز الذى يؤسف له فى اتخاذ قرار يؤدى به دائما إلى أن يفعل أفعالا مناقضة تماما لطبيعته الطيبة.. توفيق باختصار ملك شرقى دستورى فاشل، حاول وإن كان لم يحالفه التوفيق أن يرضى كلا الجانبين،كما فشل بمؤامراته فى إرضاء كليهما، وفى وقت من الأوقات كان من السهل أن يرأس الوطنيين، ويكسب ثقة الشعب المصرى، ولكنه عن عمد أضاع فرصته، ومن اللحظة التى تشاحن فيها مع «عرابى» ليضيع وقتا أولا مع تركيا، ثم مع القوتين العظميين صار أكثر شخص مكروه فى مصر كلها، ومن الصعب إخفاء الحقيقة».
يضيف «برودلى»: «كاد يكون مستقبله أمرا ميئوسا منه، وكانت أية بداية طيبة تحت رعايته أمرا مستحيلا، فاسمه فى التاريخ سيكتب على أنه «الأمير» الذى جاء بالإنجليز إلى مصر، ولهذا لعنه كل المصريين بالفعل من قنا إلى الإسكندرية من أقصى البلاد إلى أقصاها».. يؤكد: «جلس توفيق باشا مرة فى ثبات على سور الوطنية المصرية، ولكنه لم يتخل فحسب عن القضية بل خانها، ثم سقط، ولم تستطع كل خيول الإنجليز ولا كل رجالهم أن يعيدوا له حب أوثقة رعاياه الساخطين عليه».
فى بداية اللقاء، قدم «توفيق» إلى «برودلى» سيجارة ثم بدأ الحديث بينهما.. يذكر برودلى: «بدأ الخديو حديثه معى بأن أكد لى بأن آراءه بالنسبة للمحاكمات الأخيرة (محاكمات عرابى وقادة الثورة) قد أسىء فهمها تماما فى أوربا، وأنه ضحية التمويه الخبيث، ولم يرد أبدا أو يؤيد إعدام المسجونين، وأن تخفيف عقوبتهم كان عن رغبة وممارسة سارة للرأفة والرحمة».. يتذكر «برودلى» أن الخديو شكا له من الصحافة، ثم غير مجرى حديثه فجأة إلى الحديث عن عائلته، فشكا مما وصفه «جحود أسرته تجاهه، رغم أنه أنهى عليهم بما فيه نفعهم ولكنهم تنكروا له ووخزوه».. حول هذه المسألة ينقل «برودلى» أن توفيق استشهد له بما قالته الأميرة (لم يذكر اسمها) إلى اللورد دافرين (مفوض بريطانيا فى مصر بعد الاحتلال)، وقال إنه كم يكون سعيدا لو لم تلاحقه ألسنة الأميرات وأقلام رجال الصحف».
فى شكوى توفيق مما اعتبره «جحود أسرته تجاهه»، طال حديثه والده الخديو إسماعيل «تم عزله يوم 26 يونيو 1879 بضغوط من بريطانيا وفرنسا وتولى توفيق».. يذكر «برودلى»: «قال توفيق، إن أباه نفسه لن يتركه وحده».. ينقل شكواه، بأنه كان يبعث دائما إلى والده بخطابات غاية فى الأدب والاحترام ومع ذلك اتهمه لشخص ما بأنه «لا رأس له ولا قلب ولاشجاعة»، وأن هذا الشخص كتب ذلك فى «التايمز».
يؤكد «برودلى» أنه حاول أن يتحدث قليلا مع توفيق عن «عرابى»، فقال الخديو، إنه يعتقد حتى الآن أن عرابى رجل طيب، ولم يعتقد إطلاقا للحظة أن عرابى فكر مرة فى قتله، ولو كان عنده النية لفعلها مائة مرة عندما كانا معا فى القاهرة.. يذكر أن باقى الحديث تناول تفكير توفيق الجنونى لعجزه عن إرضاء أى فرد.