أصدر السلطان فؤاد مرسوما إلى يوسف وهبة باشا بتشكيله وزارة جديدة يوم 21 نوفمبر سنة 1919، وفى صباح اليوم اجتمع ما يزيد عن ألفين من الأقباط فى الكنيسة المرقسية الكبرى للاحتجاج على قبوله التكليف، حسبما يؤكد عبدالرحمن فهمى فى الجزء الثانى من مذكراته «يوميات مصر السياسية- الحصار- يوليو1919- مارس 1920».
كان «عبدالرحمن فهمى» زعيما للتنظيم السرى لثورة 1919، ويعتبره فتحى رضوان فى كتابه «مشهورون منسيون» قائد الثورة السرى، وتؤرخ مذكراته التى تقع فى ستة أجزاء، عن دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة «لوقائع يومية للثورة من إرهاصاتها فى نوفمبر 1918، مرورا باشتعالها فى مارس 1919، وانتهاء بوضع الدستور والانتخابات فى يوليو 1924، وتشمل المذكرات مراسلاته السرية من القاهرة إلى سعد زغلول فى الخارج، سواء فترة منفاه، أو وجوده فى باريس على رأس وفد لبحث استقلال مصر.
ينقل «فهمى» فى مذكراته حالة الغضب التى عمت بين المصريين، وفى مقدمتهم الأقباط على قبول أحدهم «يوسف وهبة» رئاسة الوزراء، وذلك كسرا للاتفاق الوطنى بعدم التعامل مع «لجنة ملنر» التى أرسلتها الحكومة البريطانية إلى مصر لبحث أسباب الثورة، وحضرت اللجنة بالرغم من إعلان الحكومة والسلطان»عدم الموافقة على حضورها.
كان قبول «وهبة» تكليف السلطان بخلافة «محمد سعيد باشا» فى رئاسة الحكومة سببا فى «استياء الأمة كلها منه، وأظهرت ذلك الاستياء بشتى الطرق، وكان أشدها الأقباط أنفسهم»، وفقا لتأكيد «فهمى».وفيما شهدت الكنيسة المرقسية وقائع الاحتجاج العلنى، طرأت فكرة استخدام العنف باغتيال هذا الرجل الذى يكسر إجماع الأمة، فكيف حدث ذلك؟
يجيب «عريان يوسف سعد» الطالب بكلية الطب وقتئذ، الذى نفذ محاولة الاغتيال على السؤال.. يذكر فى رسالة كتبها إلى الكاتب الصحفى «مصطفى أمين» منشورة فى كتابه «الكتاب الممنوع – أسرار ثورة 1919»: «شهر أكتوبر سنة 1919، اجتمع 40 طالبا من طلبة كلية الطب فى منزل الطالب محمد حلمى الجيار، وأقسموا اليمين على كتمان سرالاجتماع، وبحثوا فى كيفية استمرار إضراب الطلبة، ووقفت وقلت: لا بد من القتل، قتل الخونة وقتل الإنجليز، هذا هو السلاح الوحيد الذى يؤدى لإخراج الإنجليز من بلادنا، وإذا بطالب يقاطعنى: «هذا كلام لا يقال، مفيش كلام زى ده، نحن نؤمن بالأعمال السلمية فقط، وصاح طالب آخر: هذا كلام فارغ، نحن ضد القتل السياسى».
يتذكر«يوسف»: «اضطررت إلى السكوت، وإذا بالطالب الذى قاطعنى واسمه محمد حفنى يجىء إلىّ ويقول لى: «هل أنت جاد فيما تقول؟ وأخذ يناقشنى فى عدة مسائل، ثم عاد بعد يومين وقال لى، إنى أصبحت عضوا فى جمعية «اليد السوداء»، وطلب منى أن أؤلف خلية سرية أخرى، واستمرت اجتماعاتنا فى انتظار تعليمات، واكتشفت بعد ذلك أن الطالبين اللذين قاطعانى فى أثناء اجتماع الطلبة، وهاجمانى لأننى أطالب بالاغتيال، وعارضا فكرة الاغتيال، وهما محمد حفنى ومحمد حلمى الجيار الطالبان بمدرسة الطب، كانا فى الواقع عضوين فى الجهاز السرى للثورة وفى شعبة الاغتيالات بالذات».
يكشف «مصطفى أمين» قصة نشأة الجهاز السرى للثورة قائلا: «كان عبد الرحمن فهمى هو رئيس الجهاز السرى لثورة 1919، وهو جهاز خطير، ينقسم إلى عدة فروع، كان فيه إدارة مخابرات الثورة، وكان للثورة عملاء فى كل مكان، كان لها عيون فى قصر السلطان، وعيون فى دار الحماية البريطانية، وعيون فى قيادة جيش الاحتلال، وعيون على الوزراء وكبار السياسيين، وكان فيه إدارة للاتصالات الخارجية لها عيون فى إنجلترا، وفى سويسرا وإيطاليا، وباريس، وكان فى هذا الجهاز إدارة لتحريك المظاهرات والاضطرابات، وقطع السكك الحديدية والمواصلات، وعمليات التخريب، وإدارة للدعاية تشرف على توجيه الصحف وتزويدها بالأخبار، ثم هناك إدارة للاغتيالات، وكل الذين يعملون فى كل إدارة لا يعرفون شيئا عن باقى الإدارات، ولا يعرفون أسماءهم، بل لا يعرفون أن هناك إدارات بهذا الاسم».
اختار سعد زغلول، عبد الرحمن فهمى، للإشراف على الجهاز، حسبما يؤكد مصطفى أمين، والسبب: «كان يبلغ من العمر 49 عاما، ومكث ضابطا فى الجيش 8 سنوات، وخرج منه عام 1898 حاملا نياشين وأوسمة، ثم عين مأمورا لمركز سمالوط فى محافظة المنيا، ثم وكيلا لمديرية القليوبية، ثم الدقهلية، ومكث 8 سنوات وكيلا للمديريات، ورأى فيه سعد رجلا عسكريا منظما، درس المديريات دراسة كاملة، عرف الشخصيات الموجودة فى كل إقليم، وضع إصبعه على نقاط الضعف والقوة فى كل مكان، فى الجيش، البوليس، الإدارة».. يؤكد أمين: «كان هناك بين القيادة والمنزل رقم 150 شارع قصر العينى، حيث يسكن عبدالرحمن فهمى، عدة شفرات، شفرة بالحبر السرى، وشفرة بالحروف وشفرة بالأرقام».
كانت شعبة الاغتيالات التابعة للجهاز السرى هى «اليد السوداء»، وأصبح «عريان يوسف» عضوا فيها، واقترح أن يقوم باغتيال يوسف وهبة رئيس الوزراء الذى خالف قرار سعد بأنه لا يجوز لمصرى أن يؤلف الوزارة فى ظل الحماية البريطانية، ووافق «الجهاز» وتحدد موعد 14 ديسمبر، مثل هذا اليوم 1919، موعدا للتنفيذ، لكن تعطلت المحاولة إلى اليوم التالى.. فلماذا؟