كان الوقت مساء يوم 23 ديسمبر، مثل هذا اليوم، عام 1956، حين قام جنديان فرنسى وإنجليزى بربط علمين بريطانى وفرنسى متوسطى الحجم على يد تمثال ديليسبس اليمنى، ووضعا على رأس التمثال غطاء رأس بيريه من وحدة مظلات فرنسية، ولزيادة الأمر سوءا، قاما بدهن التمثال بطبقة شحم كثيفة، كما وضعا الشحم على ذراعه الممتدة والمثبت فيها العلمان البريطانى والفرنسى المذكوران لمنع الأفراد من التسلق وانتزاعهما دلالة على استمرار سيطرتهم المعنوية على المدينة.. يذكر يحيى الشاعر هذه الواقعة فى كتابه «الوجه الآخر للميدالية – حرب السويس 1956 – أسرار المقاومة السرية فى بورسعيد».
«كان التصرف استفزازيا» بوصف «الشاعر» الذى كان من قيادات المقاومة الفدائية السرية فى بورسعيد، لكن لم يستمر أكثر من ساعات قليلة، حيث تمت عملية نسف التمثال، التى لم تكن من تجليات مقاومة العدوان الثلاثى وفقط، وإنما تأكيد على احتقار المصريين لهذا الفرنسى لأسباب كثيرة، أهمها فى رأى الكاتب والخبير الاستراتيجى البارز أحمد عز الدين: «دوره فى مواجهة الجيش المصرى العظيم، وتجاه الاحتلال البريطانى لمصر عام 1882».. يؤكد: «لعب الدور التآمرى الأكبر فى هزيمة الجيش المصرى، وبالتالى العامل الأكبر فى تمكين الاحتلال العسكرى البريطانى من مصر، بكل حصاده الأليم»..ينبه «عزالدين»فى مقاله «ديلسيبس وتمثاله من زاوية أخرى» المنشور فى مدونته الخاصة على «فيس بوك»: «فى عنق هذا الفرنسى، احتلال أجنبى نزل على نهار مصرى فحوّله إلى ليل، طال أكثر من سبعين عاما وفى عنق هذا الفرنسى، جيش مصرى كامل، تم ضربه والتنكيل إعداما وسجنا بقياداته وضباطه، قبل أن يتم حلّه وتصفيته.. هذا السبب ملزم لإعادة النظر فى هذا الحماس غير المبرر، من جانب أولئك الذين يرون أن إعادة زرع التمثال على قاعدته القديمة شكل من أشكال المصالحة فى التاريخ القديم، حتى وإن كان فى حقيقته مخاصمة مع التاريخ الوطنى قديما وحديثا».
كان تمثال ديلسيبس على قاعدته فى بورسعيد منذ أن رفع الستار عنه الخديو عباس الثانى يوم 17 نوفمبر 1899 بحضور أبناء ديلسيبس، وفقا لأحمد شفيق باشا رئيس الديوان الخديوى فى مذكراته، وفى هذا اليوم حظى ديلسيبس بمديح وافر من الخديو عباس فى كلمته، وبعد 57 عاما من هذا المديح، قالت المقاومة الفدائية والشعبية فى بورسعيد كلمتها للتاريخ.. يروى «الشاعر» القصة من بدايتها، مشيرا إلى أنها بدأت من الساعة الثامنة والربع صباح يوم الأحد 23 ديسمبر1956، حين ذهب اليوزباشى «سمير غانم» قائد المقاومة السرية إلى بيت «الشاعر»، وكان يحمل فى يده حقيبة مكتب سوداء صغيرة».. يتذكر الشاعر: «كان وجهه يمتلئ بالسعادة، وما كاد يرانى حتى قام على غير عادته المتحفظة بمعانقتى فور مشاهدتى.. طلبت منه الدخول، وأعلنت حضوره لوالدتى ولضابط اللاسلكى محمد فرج المقيم فى بيتنا سرا منذ بدء العدوان لتشغيل اللاسلكى مع القيادة فى القاهرة».. يتذكر الشاعر، أن الضابط فرج استعجب أيضا لظهور «غانم» فى هذا الوقت المبكر، وخاصة أنه لم يعد هناك داع للقلق بعدما غادر آخر جندى مدينتنا تحت ظلام مساء الأمس، يؤكد: «ماكاد فرج يرى سمير حتى علق بمرح، قائلا: خير إن شاء الله، هما غيروا رأيهم ورجعوا تانى».. ضحك الضابطان بمرح، وطلبت والدتى، رحمها الله، من سمير مشاركتنا فى الفطور الطازج، ولم تمض لحظات، حتى طلب سمير الانتحاء بى، وطلب منى التوجه للقيام بعملية خاصة ومهمة».
يصف «الشاعر» شخصية «سمير»: «كانت تتصف بالثورة والبركان الفائر».. يتذكر: «أفهمنى بضرورة تحركنا يسرعة لتسلل الوقت من بين أصابع أيدينا، ووضع يده فوق كتفى يحثنى على التحرك، فاعتذرت للموجودين وغادرت مسكننا فى صحبته بسيارته التى أحضرته من مكتب الإسماعيلية بعد دخول قوات البوليس للمدينة فى الأيام السابقة..
يضيف: «ما كدت أدخل السيارة وأغلق بابها حتى سلمنى حقيبة مكتب جلدية سوداء ثقيلة كان لايزال يحملها فى يده قائلا: «على بركة الله يايحيى.. إلى تمثال ديليسبس وانسفه»، لم ينتظر منى جوابا.. كان ذلك أمرا عسكريا..حرك السيارة فى اتجاه شرق بورسعيد ناحية رصيف ديليسبس، وفى خلال الطريق، أخبرنى كيف أنه والقاهرة يشكروننى جدا لشجاعتى ونشاطاتى ووطنيتى و... و... و.... خلال الأسابيع الماضية، وأنه يفتخر بى وبالشباب أمثالى.. إلخ إلخ ، ثم أخبرنى بأنه اختارنى بالذات لكى أقوم بهذه العملية التاريخية اعترافا لى ولعائلتى بدورهم خلال تحرير أرض مصر وبورسعيد، ثم تابع حديثه مشجعا».. يعترف الشاعر: «انتفخ صدرى انبهارا وافتخارا.. فلم أكن تجاوزت الثامنة عشرة عاما بمدى طويل.. وما زلت مراهقا.. وبدأت أتحقق مما أديناه للوطن.. ووالدتى السيدة أمينة الغريب قبلنا كلنا.. سار سمير بالسيارة تجاه الميناء.. إلى ديليسبس وتمثاله، بينما كانت الأحداث تتوالى بشكل سريع على الرصيف.
ييتذكر «الشاعر»: «دون تعليق نظرت الى اليوزباشى سمير، ثم شكرته على ثقته فى شخصى وقلت له بأننى سأفعل ما يمكننى لتحقيق هذا الطلب».