أعطى النقيب سمير غانم، قائد المقاومة السرية ضد القوات الإنجليزية والفرنسية فى بورسعيد، تكليفه إلى يحيى الشاعر بنسف تمثال ديلسيبس من على قاعدته فى بورسعيد.. «راجع ، ذات يوم ،23 ديسمبر 2019».
يعود «الشاعر» بالذاكرة إلى تلك الأيام الخالدة فى تاريخ مصر.. يكشف فى كتابه «الوجه الآخر للميدالية– حرب السويس 1956، أسرار المقاومة السرية فى بورسعيد»، أن «غانم» أعطاه حقيبة سوداء فيها متفجرات لتنفيذ العملية، وتوجه إلى شقيقه عبدالمنعم بصحبة غانم لإبلاغه بمشاركته فى العملية.. يؤكد،أن فكرة نسف التمثال كانت قرارا ذاتيا من المقاومة فى بورسعيد التى لم تنتظر الموافقة عليه من القيادة فى القاهرة.
يؤكد«الشاعر»، أن أهل بورسعيد حين توجهوا صباح يوم 24 ديسمبر إلى التمثال فوجئوا بمشهد ربط العلمين البريطانى والفرنسى متوسطى الحجم على يد التمثال اليمنى، وعلى رأسه غطاء رأس بيريه من وحدة مظلات فرنسية،ودهن التمثال بطبقة شحم كثيفة، ووضع الشحم على ذراعه الممتدة والمثبت فيها العلمان لمنع التسلق وانتزاعهما.
يتذكر:«لما شاهدت مجموعات الشعب هذا المنظر المستفز، حاول العديد من الأفراد التسلق على التمثال وقاعدته، إلا أن طبقة الشحم التى دهن بها التمثال ومنصة قاعدته منعت التسلق، فلم يتوان المواطنون وطلبوا مساعدة المطافئ بإمدادهم بأحد السلالم الطويلة من معداتهم، حتى يتسلقوا إلى قاعدة التمثال ويتمكنوا من نزع العلمين الأجنبيين، وفى الحال، تجاوب رجال المطافئ، فأسرعوا ومعهم السلم الطويل على عجلتين وتقدموا على الرصيف ووضعوه، وتسلق أحد المواطنين وانتزع العلمين وألقى بهما للجماهيرالمتجمعة حول القاعدة الضخمة وفى الأرض الفضاء بجانب قاعدة التمثال، وما كاد العلمان يصلان للأرض حتى داسوا عليهما فى غضب، وبصقوا عليهما، وبدأوا فى تمزيقهما إلى قطع صغيرة، وأخيرا أشعلوا النار فيهما تعبيرا، وعمت السماء هتاف «الله أكبر، تحيا مصر، يعيش جمال عبدالناصر».
يضيف«الشاعر»:«كانت تدور فى ذلك الوقت أحداث على رصيف ديلسيبس تدعو للقلق.. فبعد لحظات طويلة من فرح وتهليل الجماهير المتجمعة حول قاعدة التمثال، أحضر أحد البانبوطية حبل ربط سفن سميكا، ثم تسلق على السلم إلى القاعدة المدهونة بالشحم الزلق، وربط الحبل حول عنق التمثال فى ربطة عقدة بحرية مشابهة للمشنقة، ولما شاهدت التجمعات الهائجة ما يحدث لم يتوقف هتافهم وحماسهم عندما رأوا البانبوطى ومحاولته التى تفهموها فورا، فتسابق العديد من المواطنين وأمسكوا بالطرف الآخر للحبل، وبدأوا يسحبونه من الناحية الشمالية بقوة وشدة، أملا فى جذبه إلى الأرض، ولكن دون جدوى فازداد غضبهم وبدأوا يلعنون، وازدادت محاولاتهم فى جذب الحبل، وصاحبت محاولاتهم الهتافات التى تردد صداها إلى السماء فوق المدينة، بحيث سمعناها تصل إلينا ونحن فى السيارة التى حضر بها سمير غانم ليصطحبنا أنا وشقيقى عبدالمنعم إلى رصيف ديلسيبس.. كانت نوافذ السيارة مغلقة وعلى بعد من الرصيف، ورغم ذلك كنا كما لو أننا فى قلب الحدث».
وصلت السيارة أمام درجات السلم الخمس المؤدية للرصيف.. يصف الشاعر حالته وقتئذ:«كنت أحترق من اللهفة، فقد طغى علىٍ شعور بالاعتزاز، لاختيارى للقيام بهذه المهمة، رغم أن سنى لم تصل إلى 18 عاما، وبعدما هدأ سمير من سرعة السيارة للتوقف، ودون أن أنتظر، فتحت بابها وقفزت منها قبل أن تقف تماما قد كان صبرى نفد، وهرعت وأنا أحمل الحقيبة السوداء وعلبة كارتون الكبسولات فى اتجاه جموع المواطنين الذين تزايد عددهم يجذبون مشنقة الحبل حول رقبة التمثال».. كان فى الحقيبة السوداء اثنا عشر قالب مفجرات T N T دون فتيل الأمان أو كبسولات التفجير، وأربعة صوابع متفجرات». يتذكر«يحيى» محاولته الأولى هو وشقيقه عبدالمنعم فى التفجير، ولم تؤد إلى أى ضرر للتمثال، ثم المحاولة الثانية، وأخيرا المحاولة الثالثة التى ساعد فيها الجاويش مظلات حسنى عوض بخبرته العسكرية فى المتفجرات، وكان يشاهد ما يحدث من بُعد.. يضيف الشاعر: «كان الوقت يجرى من بين أصابعنا، وبدأت الجماهير تفقد صبرها وزادت أصوات الهتافات كرعد مخيف.. دعوت الله أن تنجح محاولتى هذه المرة. انتظرت ثوانى بشعة كرهتها مضت على كسنوات طويلة جدا، كنت أسمع خلالها نبضات قلبى ،وساد على الحاضرين صمت، وأخيرا ارتفع صوت الانفجار، وارتفعت سحابة دخان سميكة، ثم رأت الجماهير التمثال وهو يسقط من قاعدته ورأسه جهة الأرض».
يتذكر الشاعر: «كان صوت الانفجار وصداه يدوى فى جميع أحياء المدينة، وهتافات الجماهير وجنود البوليس تدوى:«الله أكبر- الله أكبر- الله أكبر»..شاركناهم جميعا النداء.. سمعنا نداء المآذن وأجراس الكنائس من حى الإفرنج وأحياء المدينة تدعو للصلاة».