أصدر الملك فاروق مرسوما بإقالة حكومة مصطفى النحاس باشا يوم 30 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1937، وذلك بعد نحو 3 شهور من وصوله إلى سن الرشد «29 يوليو 1937»، الذى أتاح له ممارسة سلطاته الملكية.. طلب الملك من محمد محمود باشا تشكيل وزارة جديدة، فقرر الدكتور طه حسين عدم رفع تقرير أعده إلى «النحاس» بصفته رئيسا للوزراء، وقرر نشره فى كتاب عنوانه «مستقبل الثقافة فى مصر»، وأهداه إلى الشباب، وفقا للدكتور محمد حسن الزيات فى كتابه «ما بعد الأيام».
كان «الزيات» زوج ابنة طه حسين، وكان وزيرا للخارجية أثناء حرب 6 أكتوبر 1973، ويذكر قصة «التقرير» الذى تحول إلى كتاب صدر عام 1938، مشيرا إلى أنه جاء نتيجة مناسبتين.. الأولى، قيام «عميد الأدب العربى» بزيارة «النحاس باشا» ليهنئه على توقيعه معاهدة 22 أغسطس عام 1936 مع بريطانيا، ثم نجاحه فى الاتفاق مع الدول الأوروبية على إلغاء الامتيازات الأجنبية، فتحدث «النحاس» معه فى أن مصر المستقلة تحتاج الآن إلى جهاد أكبر، يبذل فيه كل المصريين كل ما يملكون من جهد وقوة، لتحقيق ما يجب عليها أن تحققه الآن من النهضة فى كل ميادين الحياة.. أما المناسبة الثانية فكانت استقباله وفدا من الطلاب فى مكتبه بكلية الآداب بالجامعة المصرية، ليسألوه عن واجب الشباب المصريين بعد فوز مصر بجزء عظيم من أملها فى تحقيق استقلالها الخارجى وسيادتها الداخلية.
يؤكد «الزيات»، أنه فى شهور صيف 1937 فكر طه حسين فى سؤال الشباب، وبذل جهده وأتم تفكيره وأعد الرد المطول عليهم، ولأنه لم ينس مقابلة النحاس باشا وما أبداه من الاهتمام بكيفية تحقيق نهضة البلاد، قرر أن يقدم إلى رئيس الحكومة نتائج هذا التفكير والبحث، فبدأ فى أوائل شهر يوليو 1937 إملاء خطاب طويل إليه يقول فيه: «سيدى صاحب المقام الرفيع.. تعود الناس منذ عهد بعيد أن يكتبوا إليك وأن يكتبوا عنك، أكثرهم يحمد ويثنى، وأقلهم ينقد ويعيب.. ولكنى أريد أن أكتب إليك على نحو جديد لم يصطنعه الناس فيما كتبوا إليك أو كتبوا عنك إلى الآن..أكتب إليك فى المنفعة العامة التى تمس حياتنا فى الغد والتى سيكون لها أكبر الأثر فى تكوين الأجيال المقبلة.
أنت رئيس الحكومة القائمة، وأنت زعيم الكثرة التى ستكون إليها أمور مصر دهرا طويلا إن شاء الله، وأنت بعد هذا، وذاك أقدر الناس على أن تسمع لى، وتقبل منى، وتفكر فيما أرفع إليك من رأى فتقبله عن رضى ومودة، أو ترده عن اقتناع ومودة أيضا، وأنى لا أذكر أنى تشرفت بزيارتك بعد رجوعك فائزا بالغا الامتيازات وإنزال مصر منزلتها الكريمة بين الأمم الحرة المستقلة فى عصبة الأمم.. ولست أخفى عليك أنى خرجت من عندك راضيا كل الرضا، قد امتلأت نفسى رجاء، وقد فتحت لى آمالا عراضا، وكنت أتحدث إلى نفسى يقينا واثقا بأننا سنبدأ فى إقامة حياتنا الجديدة من العمل الصادق النافع على أساس متين.
والموضوع الذى أريد أن أرفعه إليك أدبر فيه الحديث عن مستقبل الثقافة فى مصر، التى ردت إليها الحرية بإحياء الدستور وأعيدت إليها الكرامة بتحقيق الاستقلال»..يؤكد الزيات: «هذا الخطاب لم يرسله طه حسين إلى رئيس الوزراء النحاس باشا بسبب إقالة الملك له».. يضيف: «قرر أن ينشر تقريره فى كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر»، ورأى أن الكتاب فى صورته هذه سيذاع فى الناس وسيقرؤنه، سواء منهم من آل إليه أمر من أمور السلطان، ومن لا ناقة له فى السلطان ولا جمل، كما يقول الشاعر القديم، وسيقرأه الجامعيون وغير الجامعيين، وسيجدون فيه صورة للواجب المصرى فى ذات الثقافة بعد الاستقلال كما يراه مصرى مهما يقل فيه ومهما يظن به، فلن يتهم فى حبه لمصر وإخلاصه للشباب المصريين».
يذكر الدكتور أحمد زكريا الشلق، أن الحالة التى سادت بعد توقيع معاهدة 1936، وأسفرت عن كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» لم يكن طه حسين وحده فيها، «إنما صدرت كتب أخرى معاصرة هى أقرب إلى التقارير أو البرامج التى ترسم خطوط وتوجهات نهضة مصر فى مرحلتها الجديدة، مرحلة ما بعد معاهدة عام 1936، واتفاقية 1937 «إلغاء الامتيازات الأوروبية»، ومن أشهر هذه الكتب، كتاب مريت غالى «سياسة الغد»، وكتاب حافظ عفيفى «على هامش السياسة»، وكتاب محمد عبدالحميد مطر «التعليم والمتعطلون فى مصر»، وكذلك كتاب محمد على علوبة «مبادئ فى السياسة»، وكتاب إبراهيم مدكور ومريت غالى «الأداة الحكومية»، وكلها صدرت بين عامى 1938 و1945».
يرى «الشلق» أن «مستقبل الثقافة فى مصر» ليس كتابا علميا أو تاريخيا بالمعنى المألوف، وإنما هو بيان مطول، وبرنامج مسهب يشخص الداء، ويقترح الدواء، ويرسم مستقبل الثقافة والتعليم لمصر المعاصرة كأساس لنهضتها وتحديثها، فى لغة خطاب فكرى مباشر واضح وجلى».
ماذا جاء فى الكتاب، وكيف كانت ردود الأفعال عليه خاصة رد فعل والده فى المنيا؟