كان الكاتب والشاعر كامل الشناوى على موعد مع قرائه يوم 12 يناير، مثل هذا اليوم، 1961 ليكشف لهم أسرارا جديدة عن الشاعر بيرم التونسى بعد أسبوع من رحيله «توفى 5 يناير 1961».
كتب «الشناوى» مقاله فى جريدة الجمهورية بعنوان «أيام مع الشاعر الثائر الغريب».. قال فيه: «بدأ من حيث كان يجب أن ينتهى، وانتهى من حيث كان يجب أن يبدأ.. ففى مستهل حياته نظم الأوبريت والمسرحية، وعندما بلغ الخمسين أخذ ينظم الأغانى العاطفية، وكان يرى أن الأغنية بالنسبة إلى العمل الفنى، هى الشباب بالنسبة إلى مراحل العمر.. ويقول ساخرا: ماذا أصنع وقد أراد لى القدر ألا أجد شبابى وأنا شيخ كبير».
يضيف الشناوى: «الأعمال الفنية التى تركها الشاعر تؤلف جبلا، قمته محاولاته المسرحية، وتصويره للمجتمع والناس، وفلسفته البسيطة فى الحياة، أما أغانيه فهى سفح الجبل، ولقد عرفته الملايين بالسفح أكثر مما عرفته بالقمة، هذا الشاعر الفنان الثائر عاش طوال حياته يعانى العرق، والقلق، وشظف العيش، وقد يتهيب خاصة المثقفين عندنا من الاعتراف به، فى حين كانت جامعات أوروبا وجامعة موسكو تدرس آثاره، وتعترف بموهبته الأصيلة، وفنه الرفيع.. كان دائما فى المكان الأول من تقدير الشعب، فهو شاعر الشعب، نبع فيه، وعاش حياته، وأحس ألمه، وأمله، وإرادته، ومشاعره، واستطاع أن يسكب من شعره دمعة الشعب، ويرسم ابتسامته، ويعبر عن إرادته، وأصبح شعره فى كل فم، النشيد، والأغنية والموال.
وبعدما أصبحت الدولة من الشعب، عبرت عن احترامها لشاعر الشعب،ووضعت وسام الدولة على صدره الذى ظل أكثر سنى حياته يجيش بمشاعره الوطنية والعروبة والمرارة والثورة والربو، واليوم هدأت النفس البشرية الثائرة، وتوقف القلب النابض، وتجمد الفكر الذى كان أشبه بالموج، فقد أغفى شاعرنا بيرم التونسى إغفاءة الأبد، وقلمه فى يده يكتب به تكملة القصة الإذاعية «الظاهر بيبرس»، مات وعنده كثير يريد أن يعطيه للناس، وسارت جنازة بيرم، وأقيمت ليلة مأتمه، والإذاعة تقدم برامجه والمسارح تمثل رواياته، وأم كلثوم تردد آخر أغنياته.
بيرم كان شاعرا شعبيا أصيلا، والشعب هو الطبقة الكادحة، طبقة العمال والفلاحين، والعاملين فى حقول الفن والثقافة، ليس الشعب هو هؤلاء الكسالى، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، فهم فى عقيدته ليسوا من الشعب، ولكن عالة على الشعب، وقد أحب بيرم الطبقة الشعبية المتحركة المفكرة، فأشاد بمزاياها، وصارحها بعيوبها، وفى مطلع حياته اتجه بنقده إلى علماء الدين، ولم يكن بيرم يكره العلماء، ولاكان ضعيف الإيمان، فهو شديد التدين، حريص على تأدية الفروض والواجبات، واتجه أيضا إلى نقد العادات والتقاليد المعترف بها فى البيئات الفقيرة.
يكشف كامل الشناوى، بداية تعارفه مع بيرم، قائلا: سمعت اسم بيرم لأول مرة فى عام 1925، كنت صبيا بعد، وكنت أسمع من أساتذتى الكثير عن بيرم، وأزجاله التى نظمها قبل ثورة 1919، وخلال الثورة، وكيف هاجم الملك فؤاد عندما أنجب ولى عهد فاروق، فنظم زجلا أشار فيه إلى أن ولى العهد ابن حرام، وقررت السلطات نفى بيرم من مصر وغادر البلاد إلى غير اتجاه، إنه لا يعرف أين يذهب؟وأخيرا استقر فى مرسيليا ثم فى باريس، وهناك احترف أقسى الأعمال، كان يحمل الصناديق المحملة من داخل المصنع إلى العربات الواقفة بباب المصنع.
وفى عام 1939 التقيت ببيرم، كان قد دخل مصر متخفيا، وكنت إذ ذاك محررا فى جريدة الأهرام، وزارنى الأستاذ سعيد راتب زوج كريمة بيرم وسلمنى ورقة، وقبل أن أقرأها سألنى: هل عرفت أن الأستاذ بيرم موجود الآن فى القاهرة: أين هو؟ أريد أن أراه. رد: كيف تراه؟ إن البوليس يبحث عنه فقد هرب من الباخرة عندما رست فى ميناء بورسعيد.. وتسلل إلى القاهرة، وقد أرسل لك هذا الخطاب، لأنه يعلم مدى إعجابك به، فهل تستطيع أن تصنع له شيئا؟
قرأت الورقة، وإذا هى تنطوى على تحية رقيقة مؤثرة وزجل، وذهبت إلى أستاذنا أنطون الجميل، رئيس تحرير الأهرام، ورويت له القصة، فقال: إن محمد محمود، رئيس الوزراء، ومحمود فهمى النقراشى، وزير الداخلية، وأحمد حسنين الأمين الأول فى القصر من أشد المعجبين ببيرم، وسمعت منهم بعض أزجاله، وسأتصل بهم الآن، وأستأذنهم فى نشر زجل بيرم، ليبذلوا مساعيهم عند الملك كى يعفو عنه ويسمح له بالإقامة، وبعد ساعتين استدعانى أنطون الجميل وقال لى: سننشر الزجل فى الصفحة الأولى..وكانت هذه هى أول مرة ينشر فيها الأهرام زجلا فى الصفحة الأولى، أو فى أية صفحة، وكتبت كلمة أشرت فيها إلى أننا تلقينا هذا الزجل من مجهول وهو بخط بيرم التونسى، وقد أرفق به رسالة تشير إلى أنه موجود فى القاهرة والتمسنا العفو عنه بعد ما أبداه فى زجله من استعطاف، ونشرت الأهرام الزجل وبعد أيام صدرت الأوامر لرجال البوليس أن يتجاهلوا بيرم فى مصر.