عقد مجلس النظار «الوزراء»اجتماعه للنظر فى مشروع الاتفاق حول حكم السودان بين مصر وبريطانيا، والذى أبلغه اللورد كرومر، المندوب السامى البريطانى فى مصر، إلى بطرس باشا غالى، ناظر الخارجية المصرية، حسبما يذكر أحمد شفيق باشا، رئيس ديوان الخديو عباس الثانى فى مذكراته.
كانت السودان خاضعة للنفوذ المصرى منذ حملة محمد على باشا لفتحها عام 1820، وكانت مصر تحت الاحتلال الإنجليزى منذ عام 1882، ويذكر الدكتور حسين مؤنس فى كتابه «أطلس تاريخ الإسلام»، أن الحكومة البريطانية أصبحت صاحبة السلطان الأعلى فى مصر، وأن الوزارة المصرية التى كانت تحكم مصر فى أوائل سنوات الاحتلال كانت هيئة إدارية تخدم مصالح بريطانيا لا مصالح مصر، ولهذا سهل على الإنجليز إرغام الوزارة المصرية على الموافقة على فكرة إخلاء السودان من القوات المصرية التى كانت مبعثرة فى نواحى السودان ومحاصرة فى مواضعها.
كان يوم 8 إبريل عام 1898 حاسما فى توجه السياسة البريطانية للسيطرة على السودان، ففيه وقعت معركة «أم درمان» التى قضت على الدولة المهدية بهزيمة قوات عبدالله التعايشى على يد الحملة المصرية الإنجليزية بقيادة الإنجليزى «كتشنر».. يذكر الدكتور محمد فؤاد شكرى فى كتابه «مصر والسودان– تاريخ وحدة وادى النيل السياسية فى القرن التاسع عشر»، أنه منذ هذه الهزيمة، استأثر باهتمام المسؤولين الإنجليز تدبير نظام للحكم فى السودان يكفل لهم السيطرة الكاملة على إدارته، وهى السيطرة التى استمدوها من حق الفتح، بفضل اشتراكهم بالمال والرجال فى الحملة التى قام بها الجيش المصرى للقضاء على حكم المهديين.. يذكر «شكرى»، أن حكم المهديين تأسس على دعوة «محمد أحمد» مؤسس الحركة المهدية بضرورة طرد المصريين من السودان لتقرير العدالة ونشر السلام مرة أخرى.
فى يوم 17 يناير 1899 ذهب اللورد كرومر إلى الخديو عباس الثانى لمقابلته، وذلك بعد مرور أربعة أيام على عودة «كرومر» من زيارة إلى السودان، وحسب شفيق باشا، فإن لقاء الاثنين تناول خطبة كرومر فى «أم درمان» خاصة قوله: «لقد شاهدت أن العلمين الإنجليزى والمصرى يخفقان على هذا المكان، وفى هذا إشارة إلى أنكم ستحكمون فى المستقبل بملكة إنجلترا وخديو مصر، والنائب الوحيد فى السودان عن الحكومة البريطانية والمصرية سيكون سعادة السردار الذى أودعت فيه جلالة الملكة وسمو الخديو تمام ثقتهما».
يؤكد «شفيق» أن هذه الكلمات بدت إعلانا صريحا من الجانب الإنجليزى بأنه لا يبغى الاشتراك فقط فى حكومة السودان، بل ويعتزم غل اليد المصرية نهائيا عن التدخل فى شأنه.
يذكر شفيق، أن كرومر اعتذر للخديو عباس، قائلا: «إنه قبل أن يذهب إلى السودان لم يكن ينوى إلقاء خطب أو تصريحات، لكنه اضطر إلى ذلك اضطرارا، وأشار فى حديثه إلى أنه بعث بصورة اتفاق إنجليزى مصرى يختص بالسودان لبطرس غالى باشا ناظر الخارجية».. يؤكد شكرى، أن هذا الكلام كان مفاجأة للخديو، لأنه «لم يكن يعرف شيئا عن تفاصيل الاتفاق المنوى إبرامه، وكانت معلوماته حتى عن المبادئ العامة التى سوف يقوم عليها هذا الاتفاق ضئيلة».
يؤكد شفيق أنه حين تم عرض الاتفاقية على اجتماع مجلس النظار، لم يكن لدى المجلس غير نسخة واحدة منها، علما أن أكثر النظار لم يكونوا اطلعوا عليها، ولكنهم كانوا متفقين على قبولها، على حين كان الخديو يرى أنه لا يجوز للحكومة المصرية عقد اتفاق كهذا، لأن فيه اعتداء على السيادة التركية، وأخيرا تقررت الموافقة على المشروع ونشر فى الجريدة الرسمية فى مثل هذا اليوم «19 يناير» 1899 بعد أن وقعه فى نفس اليوم بطرس باشا غالى، واللورد كرومر، ويصف «شفيق» هذه الاتفاقية بـ«المشؤومة».
شملت الاتفاقية «12 مادة» أبرزها: «يستعمل العلم البريطانى والعلم المصرى معا فى البر والبحر بجميع اتحاد السودان المصرى ماعدا مدينة سواكن فلا تستعمل إلا العلم المصرى فقط ..تفوض الرياسة العليا العسكرية والمدنية فى السودان إلى موظف واحد يلقب «حاكم عام السودان»، ويكون تعيينه بأمر عال خديوى بناء على طلب حكومة جلالة الملكة، ولا يفصل عن وظيفته إلا بأمر عال خديوى ويصدر برضا الحكومة البريطانية، ولا يسرى على السودان أوعلى جزء منه شىء ما من القوانين أو الأوامر العليا أو القرارات الوزارية المصرية التى تصدر من الآن فصاعدا.. لا يجوز تعيين قناصل أو وكلاء قناصل أو مأمورى قنصليات بالسودان ولا يصرح لهم بالإقامة بها قبل المصادقة على ذلك من الحكومة البريطانية».
يؤكد شكرى: «أصبح الحاكم العام للسودان القابض على السلطة كلها إنجليزيا معينا بأمر الخديو بناء على اقتراح الحكومة الإنجليزية، لكن الحقيقة كانت فى أن إنجلترا هى التى تعينه، والسودان من هذه الوجهة إنجليزى تقريبا».