لم تترك سلطة الاحتلال البريطانى العسكرية لمصر أثناء الحرب العالمية الأولى «28 يوليو 1914 -11 نوفمبر 1918» أى جمل أو حمار صالح للعمل إلا واستولت عليه بأبخث الأثمان حسب تأكيد عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «ثورة 1919».
دارت الحرب بين «قوات الحلفاء» وتشمل «بريطانيا، فرنسا، روسيا»، و«دول المحور»، وتشمل «ألمانيا والنمسا والدولة العثمانية تركيا»، وكانت مصر تحت الاحتلال البريطانى منذ عام 1882 وفى نفس الوقت تخضع اسميًا لسيادة الدولة العثمانية، ووفقًا للرافعى: «تراخت هذه السلطة تدريجيًا حتى لم يكن يبقى من مظاهرها سوى الجزية السنوية التى التزمت مصر بها حيال تركيا ومقدراها «750 ألف جنيه عثمانى»، وكان يعادل ما يزيد عن 681 ألف جنيه مصرى حتى قرر جمال عبدالناصر إلغاءها بعد ثورة 23 يوليو 1952. فى يوم 18 ديسمبر 1914 أعلنت بريطانيا وضع مصر تحت الحماية البريطانية، وفى نص الإعلان جاء «زالت سيادة تركيا على مصر وستتخذ حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى التدابير اللازمة للدفاع عن مصر وحماية أهلها ومصالحها»، وبهذه «الحماية» أصبح كل شىء فى مصر مرهونًا بقرار الاحتلال وموجهًا لخدمة أهداف بريطانيا من الحرب، وفى هذا السياق وحسب «الرافعى»: «أخذت السلطة العسكرية منذ بداية الحرب تجمع ما تستطيع من العمال والفلاحين بطريق الإكراه لإرسالهم إلى مختلف النواحى فى شبه جزيرة سيناء أو فى العراق وفلسطين والدردنيل وفرنسا للعمل فى ما تحتاج إليه الجيوش».
يضيف «الرافعى»: «كان ظاهر الدعوة جمع هؤلاء العمال بطريق الاختيار والتطوع ولذلك سموا «متطوعين»، ولكن الحقيقة أنهم كانوا مكرهين، يؤخذون بطريق التجنيد، ووضعت الحكومة المصرية سلطتها وموظفيها رهن أوامر السلطة العسكرية البريطانية، فكان الحكام الإداريون من المديرين إلى عمد البلاد وخفرائها يقومون بعملية جمع الرجل قسرا وتجنيدهم فى هذه الأعمال، واغتنم كثر من العمد هذه الفرصة لسوق خصومهم إلى هذا التجنيد الذى كان بمثابة النفى والاستهداف للأخطار، وكان كثير منهم أيضًا يتخذون الدعوة إلى هذا «التطوع» وسيلة للرشوة يبتزونها من الأهلين لإعفائهم من هذا التجنيد، واشترك فى الرشوة مع الأسف كثير من الحكام الإداريين».
يقدر «الرافعى» أن عدد العمال والفلاحين والهجانة المصريين الذين أخذوا من مصر حتى نهاية تلك الحرب مليونًا و170 ألف عامل مات كثير منهم، ويؤكد: «كانوا عونًا كبيرًا لإنجلترا فى إدراكها للنصر فى هذه الحرب».
لم تكتف السلطة العسكرية بجمع العمال والمؤن والدواب وإنما قررت استخدامهم فى الأعمال الحربية.. يقول «الرافعى»: «طلبت الرديف من الجيش المصرى لتستخدمه الأعمال الحربية، وفى 20 يناير عام 1916 أصدر إسماعيل سرى باشا وزير الحربية قرارًا بناءً على ترخيص من مجلس الوزراء بطلب جميع الموجودين بالرديف للخدمة العسكرية ماعدا المستخدمين منهم بمصالح الحكومة».. يضيف «الرافعى»: «كان الظاهر من مذكرة وزير الحربية إلى مجلس الوزراء بشأن هذا القرار أن الباعث هو الاستجابة لطلب قائد الجيش البريطانى بمصر، إذا كان هذا الجيش يعمل فى تنظيم فروع للتشهيلات اللازمة للدفاع عن قنال السويس، وأن تنظيم هذه التشهيلات تجعله فى حاجة إلى طائفة من العمال المتعودين على النظام العسكرى كالذين يمكن الحصول عليهم من أفراد «رديف الجيش»، وبلغ عدد من جمعوا الرديف تنفيذًا لهذا القرار نحو 12 ألف مجند».
تم تنفيذ القرار بجمع الرديف قسرًا من كل ناحية فى مصر، لكن حدث رد الفعل الذى لم يتوقعه المسؤولون، وأعاد تذكيرهم بأحداث الثورة العرابية التى بدأت بمطالب من الجيش ثم انضم إليها المصريون، وشهدت وقفة الجيش بقيادة أحمد عرابى أمام الخديو توفيق يوم 9 سبتمبر 1882 أمام قصر عابدين لرفع مطالب الجيش والشعب إليه، فما هو رد الفعل؟.
يذكر «الرافعى»: «وقع تذمر شديد بين أفراده لسوء معاملتهم، ورداءة الغذاء الذى كان يعطى لهم، وحدثت مظاهرة منهم أمام «سراى عابدين»يوم 29 يناير، مثل هذا اليوم عام 1916، إذ اجتمع المجندون منهم بثكنات عين شمس، وساروا فى شكل مظاهرة إلى ميدان عابدين، وهناك ضجوا بالشكوى من سوء معاملتهم، فاستدعى رئيس الوزراء على عجل إلى السراى، فحضر ولما علم بتفاقم المظاهرة استدعى مندوبين عن الرديف، ووعدهم بأن تنظر الحكومة فى شكواهم، على أن يعودوا إلى ثكناتهم، فعادوا».
يضيف «الرافعى»: «تجددت المظاهرة فى اليوم التالى «30 يناير»، وجاءوا إلى ميدان عابدين، وكانت الحكومة قد اتخذت احتياطات عسكرية لمنع اجتماعهم، فوقع تصادم بينهم وبين رجال البوليس الراكب، وحدث هرج ومرج، وأصيب بعض رجال الرديف بجروح بالغة، وصارت هذه المظاهرة حديث الناس فى مجالسهم، وكان لها صدى بعيد فى النفوس».