- أصعب اللحظات التى مرت علىّ يوم وفاته عندما جاء أولادى لوداعه بعد أن تم تغسيله وكل منهم يقول له: «مع السلامة يا جدو»
لم يقف حوارى مع صديق العمر عند حد المشكلات أو العلاقات الإنسانية، بل تطرق إلى الحياة الاجتماعية، كانت أمنيته أن يكون جدًا، وأن أتزوج مبكرًا، وكانت مشكلتى أن أجد زوجة فى أخلاق أمى وقيمها، ولن أنسى أن أبى كان له دور فى تعريفى بشريكة حياتى، فوالدها كان صديقًا لأبى وزميلًا له، وبالفعل أيام وتمت الخطوبة، وأشهر قليلة وتم الزواج، وتمخض هذا الزواج عن أول حفيدة لأبى.. «ياسمين».
ولن أنسى الدموع وهى تذرف من عينيه وهو يحتضن «ياسمين» حفيدته ويقبلها ويحملها، وهو لا يكاد يصدق نفسه.. وما هى إلا لحظات حتى قال لى: «تفتكر هعيش لحد ما أحضر فرحها؟»، ابتسمت وقلت له: «ربنا يديك الصحة وطولة العمر».. ومرت أشهر قليلة، ورزقنى الله بطفل جميل.. كنت أتمنى أن أسميه «شريف» على اسم المرحوم أخى، فاتصلت بأبى وقلت له: «بابا أنا جبت ولد، تحب نسميه ممدوح ولا شريف؟»، فرد بسرعة فائقة: «شريف طبعًا»، وكان لقاؤه بـ«شريف» الصغير يفوق كل التوقعات والتصورات، آمنت وأجزمت بأن «شريف» أخى مازال يحيا فى قلب أبى.. وأصبح «شريف» الحفيد بديلًا لـ«شريف» الابن.. لم يكن يمر يوم دون أن يرى «شريف» ويشترى له ألعابًا، والأغرب أنه أطلق عليه لقب «بيشو»، وهو نفس اسم الدلع الذى كان ينادى به أبى أخى الراحل «شريف».. كانت «ياسمين» و«شريف» نقطة تحول حقيقية فى حياة أبى وأمى.. من يمسك تليفونه المحمول يجد صورًا لهما معه.. اشترى كاميرا وكان طوال الوقت يلتقط لهما اللقطات، وأنا لا أنسى يوم شم النسيم، أخذ أبى يلتقط لـ«شريف» و«ياسمين»، وطبعًا كان معهما الحفيد الثالث «محمد».. كان أبى يلتقط لهم لقطات، كان يلعب معهم ويخرج معهم، وكل يوم يكلمنى: «أنا جبت هدية لشريف وياسمين».. ومرت السنوات والسؤال الذى سأله لى أبى يوم ولادة «ياسمين» عام 1996 لم يتغير: «يا ترى حييجى اليوم اللى أحضر فيه فرحها» وكان الرد يأتيه من «ياسمين»: «طبعا يا جدو».. وكان آخر مرة يسأل «ياسمين» هذا السؤال قبل وفاته بأيام قليلة، لكنه فى هذه المرة تحديدًا أجاب بنفسه: «ما أظنش»، والأغرب أنه يوم وفاته كنت عنده فى المنزل يوم 31 ديسمبر 2013، وفى تمام الساعة التاسعة مساء قال لى أمام أمى: «أنا بكره الصبح حانزل بدرى علشان أجيب هدية لياسمين وشريف ومحمد»، وأنا أرد عليه: «مش لازم بكره يا بابا».. وهو يرد علىّ: «لا.. بكره، أرجوك أنا حر مع أحفادى». وقبلها بيومين وجدت «شريف» يقول لى: «بابا هو جدو ماله؟»، فرددت عليه: «ماله يا شريف؟»، فرد قائلًا: «بيكلمنى كل شوية وأنا فى المدرسة، ولما أرجع البيت يطمن عليه ويقولى مش عاوز حاجة.. بابا فى حاجة غريبة فى جدو اليومين دول» .. كنت أشعر بما يقوله «شريف»، فالإنسان عندما يقترب من النهاية يشعر، هكذا يقول بعض الفقهاء، فيكلم من يحبهم، ويحس أنه سيفتقدهم، ويسأل عليهم كما لو أنه يودعهم.. إن أصعب اللحظات التى مرت علىّ يوم وفاة أبى هى عندما جاء أولادى لوداعه بعد أن تم تغسيله، وكل منهم يقول له «مع السلامة يا جدو»، شعرت فى هذه اللحظة بالذنب، أننى حمّلت أولادى أكثر مما يجب أن يحتملوا، فقد كانوا متعلقين به تعلقًا شديدًا، ولكننى فى الوقت نفسه لم أكن أملك أن أمنع الأحفاد أن يودعوا جدهم الحبيب.
كانت لديه ملكة الحكى والقص.. لا يوجد موقف فى حياتى أو حياة صديق العمر أو أمى إلا وفيه قصة وذكريات، وكان ذهنه حاضرًا، يتذكر الماضى البعيد أكثر من الماضى القريب، كان دائمًا ما يتذكر أيام طفولته ووالده ووالدته، وأيام دخوله كلية الشرطة، وعمله كضابط شرطة فى الفيوم ثم أسيوط.. ذكرياته كثيرة مع أول يوم التحق به للعمل فى التليفزيون، وأول فيلم كتبه.. ذكرياته مع أول عجلة أحضرها لى وأنا فى سن السادسة، وكانت من محل «هانو»، والأورج الذى اشتراه لى عندما نجحت فى الابتدائية، ولا أنسى مقولته الشهيرة: «إنت دلوقتى معاك ابتدائية يعنى لو اشتغلت فى الحكومة تاخد 48 جنيه».. ذكرياته مع حتى من أساءوا إليه.. يتذكر لهم الطيب وينسى لهم السيئ، وكنت أسال نفسى: كيف يستطيع أن يغفر لمن أساءوا إليه بهذا الشكل، بل ويجلس معهم؟
لن أنسى هذا الصديق القريب من والدى الذى طعنه فى ظهره يومًا من الأيام وغدر به، وتمر الأيام لينسى لهذا الصديق غدره، ويجلس معه بشكل دورى، وكأن شيئًا لم يحدث، فأسأله: «أنا مندهش إزاى تقدر تقعد معاه وهو عمل فيك..؟»، فيرد قائلًا: «الله يسامحه، وبعدين أنا عندى إحساس يا عمرو إن هو نفسه عنده تأنيب ضمير، وحس بغلطه، يا بنى كل إنسان فينا فيه الخير والشر، ولما تعرف إنسان لازم تعرفه بمميزاته وعيوبه»، والغريب أن رده عن الإساءة ليس فقط بالنسيان، ولكن بالحسنة، فتجده يدعم من أساء إليه ويقف بجانبه فى مرضه، ولا كأنه كان يومًا سببًا فى ألمه.. ولن أنسى هذا اليوم عندما كان محتجزًا فى مستشفى دار الفؤاد فى غرفة الرعاية المركزة، وجاء يوم خروجه من المستشفى وأنا معه، وإذا به يقابل شخصًا فيسأله: «لماذا أنت هنا؟»، فيرد عليه هذا الشخص: «أصل فلان الفلانى فى الرعاية المركزة»، فيصمت أبى.. لقد كان هذا الشخص قد أساء لأبى إساءة بالغة وظلمه ظلمًا بيّنًا، فوجدت أبى ينظر لى ويقول لى: «عمرو أنا هادخل أزوره»، رددت عليه بعصبية شديدة: «تزور مين، إنت نسيت الراجل ده ظلمك إزاى وعمل فيك إيه؟»، فرد علىّ: «معلش يا عمرو أنا عاوز أزوره»، رفضت بشدة، وفى النهاية اصطحبته مرة أخرى إلى داخل غرفة العناية المركزة، وعندما همّ أبى بالدخول على ذلك الرجل، كان الرجل فى قمة إعيائه، فقد ابتلاه الله بمرض خطير، ومع ذلك وجدته مجرد أن شاهد أبى هبّ من على سريره، وكانت بجواره زوجته، كما لو أنه يريد أن يسلم على أبى.. قال له أبى: «سلامتك ربنا يرفع عنك»، وإذا بالرجل وفى حركة مفاجئة يمسك بيد أبى ويقول له بصوت وهن ضعيف: «سامحنى».. وفى هذه اللحظة وجدت الدموع تنساب من عين أبى بشكل هستيرى وهو يسحب يده من يد الرجل، ويقول له: «سامحتك».. وخرج أبى صامتًا، وما هى إلا أيام ومات الرجل، والأغرب أن أبى بكى عليه، ونسى أن هذا الرجل كان من أكثر الناس الذين ظلموه فى حياته.. لم أحدثه فى الأمر، لكننى وجدت نفسى أمام صديق مختلفن يبدو أمام الناس قويًا وصلبًا، وفى الواقع كان قلبه قلب طفل صغير، متسامحًا إلى أكثر درجات التسامح، وإذا كنت رأيت بعينى كيف يصفح عمن ظلمه، فقد رأيت كيف كان يسأل ويصل من سبه وضره فى حياته، وأسأله: «إنت بتكلم الراجل ده إزاى؟»، فيرد علىّ: «يا ابنى، المسامح كريم، وبعدين هو خلاص مشى من السلطة، أكيد ماحدش بيسأل عنه».
نحن لا نشعر بقيمة الأعزاء فى حياتنا إلا عندما نفتقدهم، فطوال ما هم على قيد الحياة، لا نشعر بقيمتهم الحقيقية، وحجم حبهم فى قلوبنا، وهناك من الأبناء من يتأفف عندما يطلب منه أبوه وأمه طلبًا معينًا يؤديه لهما، بل هناك من يهجرهما ولا يودهما، وهناك من لا يزورهما حتى فى مرضهما، وهذه حالات استثنائية، لكن الغالبية تكون مدركة حجم الحب للأب والأم، ولكن لا يعرفون أو يدركون كيفية تعبيرهم عن هذه المحبة، وللأسف لا يستيقظ الإنسان منا من غفوته إلا بعد فوات الأوان، والذى كان بالأمس لا يشعر بقيمة والده، اليوم وبعد وفاته يبحث عنه فى كل مكان، ولا أخفى عليكم أننى أبحث عن أبى فى كل مكان، فصديق العمر الذى كان بالأمس القريب أمامى أخاطبه وأناقشه وأجادله أحيانًا، الآن أبحث عنه فى صورة فوتوغرافية، أو فيديو سجل فى ذكرى ميلاده، أو حتى فى ملابسه التى كان يرتديها قبل وفاته..أبحث عنه فى ذكرى موقف ألمّ بى، وأقول لنفسى: «كان هيقولك إيه لو كان عايش».. هكذا يا أبى وبهذه البساطة بعد أن كنت أمامى، ألمسك بيدى، وأحتضنك هذا الحضن الدافئ الذى يضمد جروحى وآلامى، ويعطينى أملًا وثقة فى النفس.. اليوم أبحث عن رائحتك فى ملابس وساعة كنت ترتديها، وزجاجة عطرك عندما أضع منها أشم رائحتك، أو من خلال شريط ذكريات طويل، بدأ منذ نعومة أظافرى، وصور لى معك بالأبيض والأسود ونحن على شاطئ المعمورة، وصور لى بملابس المدرسة وأنت تصحبنى أنا وأخى إلى المدرسة صباحًا، وصور لى فى حفل زفافى وأنا أقبلك وأمى الغالية.. الآن أعيش على الذكريات والصور والأحلام بعد أن فقدت الجسد والروح، ولكن أريد أن أقول لكل إنسان لم يفقد أباه، ومازال والده ووالدته على قيد الحياة: «أرجوك لا تضيّع هذه الفرصة العظيمة التى منحها الله لك، وهى أن تكبر ووالداك على قيد الحياة، فلا تضيّع لحظة واحده دون أن تكون بجانبهما، لا تصدق أن مشاغل الحياة أهم منهما، فسوف يأتى عليك وقت تتمنى أن تراهما ولو لحظة أو ثانية واحدة، ولكن سيكون ذلك مستحيلًا».
كان حديث الموت لا يخلو من أى حوار يدور بينى وبين والدى، وحديث الموت فى حياتنا كما سبق كان مرتبطًا بوفاة أصغر أعضاء العائلة، أخى الصغير «شريف»، لذا كان والدى رحمه الله فى كل مرة يسافر فيها خارج البلاد كان دائمًا يوصينى بوصية.. افعل كذا وكذا.. وأعط كذا كذا.. ولا تنس أن تصل رحمك.. وكان دائمًا يؤكد علىّ ويقول لى: صل رحمك، فى عماتك وأعمامك وأخوالك.. وكان دائمًا يسافر ويعود بالسلامة.. لن أنسى هذا اليوم الذى سافر فيه أبى فى عام 1979 إلى إيطاليا، وكانت مدة رحلته شهرًا كاملًا، ولم نكن قد اعتدنا على أن يسافر والدنا مثل هذه المدة، وكان «شريف» على قيد الحياة، وفجأة نادى علينا أبى أنا وأخى، وأعطانا شريط كاسيت، وكنا صغارًا، وطلب منا أن نستمع لهذا الشريط بعد سفره.. فى واقع الأمر اعتقدنا أنه شريط موسيقى أو أغان، وسرعان ما تبدل الأمر، وسافر أبى، وشغلت الكاسيت أنا و«شريف» لنجد المتحدث أبى، وهو يتحدث لكل منا، يتحدث لى وينصحنى بماذا أفعل فى بقية حياتى، ويتحدث إلى «شريف» ويقول له: «وبكره يا شريف إنت حتخف ومرض السكر حيبقى مرض سهل، علاجه زى الإنفلونزا.. إوعى تيأس يا ابنى».. الحقيقة نزل هذا الشريط علىّ وعلى أخى «شريف» كالصاعقة، وأخذنا نبكى بحرقة كما لو أن والدنا قد توفى، وحتى الآن لم أعرف لماذا فعل والدى ذلك، وأصبحنا نداوم أنا و«شريف» على تشغيل الكاسيت والاستماع لصوت أبى وهو يوصينا إلى أن عاد بعد شهر كامل، وأول سؤال سألته له بعد رجوعه للمنزل: «ليه يا بابا عملت فينا كده، ليه سجلت شريط الكاسيت؟»، فرد بهدوء: «علشان العمر بإيد الله، وما حدش عارف إمتى حيموت.. عمومًا اللى أنا قلته لكم فى الشريط احفظوه وخلوكم دايمًا فاكرينه».. وتمر السنوات.. ويبدو أن ما قام به أبى أثار فضول أخى شريف، ففوجئت به يقوم هو الآخر بتسجيل شريط كاسيت بصوته يحمل رسالة لى ولأبى وأمى، والغريب أن رسالة شريف وكلماته كانت تكبر سنه، أتصور أنها كانت رسالة وداع رغم أنه لم يتحدث فيه عن الموت، وإنما تحدث عن المرض وهو يقول «أنا زعلان إنى عندى سكر.. أنا زعلان يا بابا ويا ماما ويا عمرو إنكم بتتعذبوا معايا وأنا بآخد الحقن كل يوم»، رحل شريف عن الحياة وبقى شريط كاسيت سجله بصوته ربما لم يكن يقصد ذلك أو ربما شعر بذلك.
مرت الأيام بعد وفاة شريف.. وكان أبى حريصاً فى كل سفرياته على أن يخبرنى أمام أمى بوصيته.. فى كل مرة.. كان يقول لى نفس الكلام، وكان أهمه: «صِلْ رحمك»، ولكن فى عام 2002 اكتشف أبى وأنا أنه مصاب بضعف شديد فى عضلة القلب، ولن أنسى تلك اللحظة التى وقف فيها طبيب القلب الشهير الدكتور وائل النجار ليقول لى، إن كفاءة عضلة قلبه %30، ويطلب منه أن يغير نظام حياته، لأن القلب ليس سليما، وطلب عمل قسطرة للقلب، كان ذلك اليوم يوماً مشهوداً، فلأول مرة قبل العملية يكتب أبى وصيته وكيفية توزيع تركته، نادانى قبل العملية، وأعطانى ورقة، وقال لى: الوصية بتاعتى نفذها حرفياً، طمأنته، وقلت له: دى عملية بسيطة وما تخافش.. حتقوم بالسلامة.. وبالفعل تمت العملية وخرج من المستشفى وذهبت إليه، وقلت له: «خد يا عم الوصية».. قال لى: لا خليها معاك.. قلتله: أنا حفظتها»، وتمر الأيام ونسافر أنا وأبى إلى ألمانيا فى نهاية عام 2013 حين أبلغونا بأن هناك مركزا للقلب، خاصة بعد أن ساءت حالة قلب أبى وأصيب برفرفة أذينية بخلاف ضعف القلب، وبعدما ركبنا طائرة مصر للطيران المسافرة إلى ميونيخ.. وبعد مرور ساعة على إقلاع الطائرة.. بدأنا نشعر بحالة ارتباك شديدة فى الطائرة.. والمضيفون والمضيفات يبدو على بعضهم القلق.. وما هى إلا لحظات وسمعنا كابتن الطائرة يقول: «سنضطر إلى العودة إلى مطار القاهرة»، ولم يفسر الكابتن، كان كلامه مقتضباً.. لكن تغيرت حالة جميع المسافرين.. فالجميع شعر بالخطر.. وإذا بأبى يسألنى: هو فيه إيه؟ يبدو أن الأمر خطير.. وبالفعل كان الأمر خطيرا وكان هناك عطل هندسى بالطائرة، هكذا قال لى أحد ملاحى الطائرة بعد أن ضغطت عليه.. وإذا بأبى.. يقول لى: يا رب سلم.. كان لازم مانسافرش مع بعض يا عمرو.. قلت له: ليه؟.. قال لى: علشان لما يموت حد فينا التانى يخلى باله على الباقى.. أمك حتعمل إيه ومراتك وولادك؟ وفى تلك اللحظات انهمرت دموعه فى الطائرة وأنا أطبطب عليه، وأقول له: يا بابا الأعمار بإيد ربنا.. اهدى واطمن.. وبالفعل وبعد ساعة عشناها أنا وأبى فى منتهى القلق والطائرة فى طريق عودتها للقاهرة.. نزلت إلى أرض المطار، وأبلغونا بأنه سيتم إحضار طائرة ثانية بديلة، فقلت له: تعالى نلغى سفرنا ونرجع البيت.. قال لى: لا.. خلينا نسافر.. ربنا سلم.
سافرنا إلى ألمانيا بعد أن ساءت حالة قلب أبى وأصيب برفرفة أذينية بخلاف ضعف القلب.. وهناك طلب طبيب القلب أن يجرى لأبى عملية صدمة كهربائية للقلب لعل الرفرفة الأذينية الموجودة فى الأذين تنتهى.. وعندما سأله أبى.. هل ممكن أموت فى هذه العملية.. فأجابه الطبيب الألمانى بشكل تلقائى، كل عملية مهما كانت لها نسبة خطر فرد عليه أبى قائلاً: أنا عاوز أعمل العملية فى مصر.. مش عايز ابنى إذا مت «يتبهدل معايا» فى إنه يسفرنى كجثة إلى القاهرة.. والغريب أن الطبيب الألمانى وافق على رأيه، وأكد له أن هذه العملية تتم فى مصر.. وفى الطريق حاولت أن أثنيه عن رأيه وأقول له: إحنا هنا فى المانيا أفضل نعملها هنا، قال لى: أنا مش مستعد وبعدين نرجع مصر أحسن.. وفى القاهرة.. استعد أبى لإجراء عملية الصدمة الكهربائية، كان يوماً مشهودا.. جلس قبلها ساعتين معى وأمى وقال لنا أنا خلاص بودع الدنيا، خلى بالكم على بعض.. يا عمرو اعمل كذا وكذا.. أنا خلاص رايح لأخوك.. ومن فضلك لما أموت تدفنى فى حضن شريف فى القبر»، وكررها ثلاث مرات «يا عمرو أدفنى فى حضن شريف فى القبر، أنا حاروح أشوف كل حبايبى أبويا وأمى وخلانى».. وانتقلنا بعد جلسة الوصية إلى مستشفى الصفا بالدقى وجاء طبيب القلب العظيم الدكتور أحمد عبدالعزيز وأجرى له عملية الصدمة الكهربائية وكنا جميعاً فى حالة حزن وبكاء شديد، فاللحظات قبل العملية ودع فيها أبى أمى وأنا وعمى وجيه وأبناءه وزوجتى وأبنائى.. كان مشهدا من أصعب المشاهد التى لن أنساها.
لكن سرعان ما تحول الحزن إلى فرح عندما خرج الدكتور أحمد وطمأننا، وقال الحمد لله العملية نجحت و«الأذين رد»، ودخلت له بعد أن فاق من البينج وبشرته أنه مازال على قيد الحياة وأن العملية نجحت»،.. وخرج من المستشفى لكن انتابته حالة جديدة إذ كان حديث الموت هو المسيطر عليه طيلة ثلاثين عاماً منذ وفاة شريف أخى، إلا أن حديث الموت أصبح يومياً فى آخر شهر قبل وفاته، وعندما جاء يوم ذكرى ميلاده 10 ديسمبر استقللت سيارتى ذاهباً إلى منزل صديق العمر أبى العزيز ممدوح الليثى، كان ذلك فى تمام الساعة العاشرة صباحاً، فتحت الباب أمى العظيمة وما هى إلا لحظات، كان يقف كعادته يقوم بحلاقة ذقنه، وقفت خلفه وقلت له بصوت عال: كل سنة وأنت طيب يا بابا عيد ميلاد سعيد.. كان يوم ميلاده من كل عام الفرصة الوحيدة التى تجتمع فيها أسرتى، عمامى وخلانى وزوجاتهم وأبناؤهم.. الجميع كان حريصا على الاحتفال بعيد ميلاد أبى.. رد علىّ بابتسامته الجميلة التى لن أنساها أبداً مهما حييت: وأنت طيب يا عمرو.
قلت له: عايزين نحتفل بعيد ميلادك النهارده.. رد قائلاً: لا خلاص كفاية كده.. ابتسمت وقلت له: كفاية كده إيه.. ربنا يديك الصحة وطولة العمر.. رد قائلا : لا.. ما فيش داعى نعمل حاجة، عدى على بالليل ونحتفل أنا وأنت وماما. شعرت برهبة وقشعريرة تدب بداخلى.. ورددت عليه: حاضر يا بابا.. التفتّ لأمى وسألتها: هو بابا ماله؟.. ردت قائلة: هو صاحى يقولى ده آخر عيد ميلاد ليا يا حاجة. بالفعل، نزلت من منزله وفى المساء عدت إليه وقد أحضرت معى تورتة صغيرة.. صعدت إلى غرفته وجدته جالساً متأملاً لصور قديمة له مع أخى الراحل شريف ومعى، وأنا فى المدرسة وهو يمسك بى وبأخى ونحن بملابس المدرسة، وجدته يقول لى: فاكر الصور ديه.. قلت له: طبعاً كانت أول يوم مدرسة. ضحك باسماً ثم التفت قائلاً: أخوك وحشنى.. صمت، وقلت له جبتلك التورتة اللى أنت بتحبها.. ضحك ثم أخرجت التورتة ووضعتها بجانب سريره.. ووقفت أنا وأبى وأمى نغنى له أغنية عيد الميلاد.. وهو يرتدى بيجامته الشتوية.. فقد كان البرد قارساً ذلك اليوم والتقطت صورة لى معه ونحن نطفئ الشمع.. ثم قبلت يديه وقلت له كل سنة وأنت طيب يا بابا.. وإذا به وأنا أهم بالخروج ينادى علىّ: يا عمرو.. رجعت من على باب الشقة أيوه يا بابا.. أنا عايزك تعمل لى عيد ميلاد تانى فى البيت عندك وتعزم كل العيلة الأسبوع الجاى.. أنا عايز أشوفهم ضرورى.. اندهشت، فى الصباح رفض الاحتفال، والآن يريد أن يرى جميع أقاربنا.. وفعلاً الجمعة التالية.. كان لقاء الوداع المسمى بعيد الميلاد بين صديق العمر وأبنائى وأشقائه، وخلال تلك الفترة زاره جميع أفراد أسرته، أبناء أخواته وأخواته والذين لم يرهم من زمن بعيد.. جميع خيلانى الذين لم يرهم لسفرهم.. الجميع كان حريصاً على زيارته. وما هى إلا أيام قليلة ليرحل عنا بعد أن ودعنا جميعاً.
وفى يوم احتفالية عيد ميلاده سجلت معه بكاميرا الفيديو وسألته نفسك فى إيه فرد على قائلاً: «الحمد لله خلاص كفاية كده ياله حسن الختام.. ده آخر عيد ميلاد ليّه يا عمرو.. وابتسم»، وبدأ يوزع ابتساماته على جميع الحضور.. وبعد أيام قليلة لم يكد يمر أسبوع على حفل عيد ميلاده.. كنت أزوره ليلة رأس السنة ومكثت معه فى غرفته نتكلم.. لكنه كان شارداً قال لى عارف: أنا حلمت بمين النهارده.. قلت له مين.. رد عليا خلانى.. لقتنى واقف معاهم.. وكررها «ياله حسن الختام» طوال هذه الفترة أنا أشعر بشىء غريب يدور داخلى.. كان يتملكنى نفس الشعور.. أن أبى سوف يرحل.. بل إننى قبل أن أتركه وأسلم عليه فى المنزل قبل 5 ساعات من وفاته.. مسكت يده وقبلتها وقد اعتدت على ذلك، ولكنى فى هذه المرة، قبلتها وكأننى أشعر أنها آخر مرة أقبل فيها يده.. انتابنى شعور بالضيق، لدرجة أننى طوال الطريق لمنزلى وأنا أبكى رغم أنها ليلة رأس السنة.. ولما وصلت المنزل اتصلت به وأخذت أداعبه وأتحدث معه.. وفى تمام الخامسة فجرا، وعندما حاولت أمى العظيمة أن توقظ أبى ليصلى معها الفجر كما اعتادا على ذلك منذ أكثر من خمسين عاماً لم يستيقظ، اتصلت بى.. وفى دقائق كنت عندها أنظر إلى وجهه.. كم كان مضيئاً منيراً لم يتألم ولم يصرخ قبل وفاته.. لدرجة أن أمى اعتقدت أنه نائم.. وبدأت فى إجراءات غسله وتكفينه وكان معى العالم الجليل الشيخ رمضان عبدالمعز الذى حدثته بعد الوفاة بدقائق فجاء ومعه ماء زمزم لتغسيل والدى.. وسرنا فى الإجراءات بين جنازة حضرها الآلاف من أحبابه الذين لم أعرف حتى الآن كيف تجمعوا فى هذا الوقت القياسى، وكانت المهمة الصعبة، كانت كلماته ترن فى أذنى طوال طريقى مع الجثمان إلى المقابر وصوت أبى الذى يرقد أمامى فى صندوق خشبى «يا عمرو ادفنى فى حضن شريف»، كانت هذه هى المرة الأولى لى التى أفتح فيها القبر الذى دفن فيه شريف منذ مرور ثلاثين عاماً على وفاته، وبالفعل عندما وصلنا القبر وتم فتحه نزلت بجثمان أبى إلى القبر وتذكرت أين دفن شريف، وجدته فى مكانه كما تركته منذ ثلاثين عاماً بجانب الحائط.. فقلت لمن معى فى القبر، عايزين نحط بابا فى حضن أخى شريف.. وبالفعل حملنا جثمان أبى ومال على جانبه الأيمن ووضعت شريف فى حضنه تنفيذاً لوصيته ورغبته، كانت من أشد وأصعب اللحظات فى نفسى، لكنها إرادة الله، فلتنم يا أبى مستقراً فى حضن ابنك الذى فقدته منذ سنوات طويلة لعل الله يجعله شفيعاً لك عنده ويؤنس به وحشتك فى القبر رحم الله آباءكم وأبى.. اقرأوا لهم الفاتحة ولا تنسوهم بالدعاء.