جلس جمال عبدالناصر وحيدا فى الغرفة بمبنى مجلس قيادة الثورة (23 يوليو 1952)، كان الإرهاق قد استبد بجميع أعضاء المجلس بعد ليلة مرهقة بالأحداث التى فرضتها استقالة اللواء محمد نجيب من رئاسة الجمهورية ومجلس قيادة الثورة، حسبما يذكر أحمد حمروش فى كتابه «قصة ثورة 23 يوليو»، مؤكدا أنه وبعد إرهاق أعضاء المجلس قرروا رفع الجلسة للنوم أربع ساعات، وطلب منهم جمال عبدالناصر تفويضا بالتصرف إذا ساءت الأمور خلال هذه الساعات فوافقوا على ذلك، وكان هو الوحيد الذى بقى فى مقر القيادة، بعد أن ذهب الجميع لخطف وقت للراحة، وكانوا خلال هذه الفترة لا ينامون فى منازلهم.
كانت استقالة «نجيب» قد أحدثت ردود فعل سلبية لدى سلاح الفرسان نتيجة تأثير خالد محيى الدين فيه، وهو عضو مجلس قيادة الثورة وكان ضابطا فيه، وفقا لحمروش، فإن ضباط المنطقة الشمالية فى الإسكندرية عارضوا الاستقالة أيضا، وكذلك عمت المظاهرات شوارع العاصمة السودانية الخرطوم تهتف: «لا وحدة بلا نجيب».. وخرجت المظاهرات أيضا فى القاهرة تهتف بحياته منذ الصباح الباكر».. يذكر«حمروش» أنه بعد رفع جلسة المجلس وانصراف الأعضاء للنوم، جاءت الأخبار تتلاحق، ووكالات الأنباء تحمل أخبار مظاهرات السودان، والبكباشى صلاح مصطفى يصل من الإسكندرية حاملا موقف ضباطها تأييدا لنجيب، وأخيرا عودة صلاح سالم وقد صدمه منظر المظاهرات تملأ الشوارع أمام قصر عابدين وهو فى طريقه إلى منزله.
يذكر «حمروش» نصا: «قال صلاح سالم لجمال عبدالناصر الذى كان يجلس وحيدا فى الغرفة، إما أن ينزل الجيش لتفريق المظاهرات وإما أن يلتهب الموقف»، ولم يجب جمال عبدالناصر، الذى جلس فى صمت وقد وضع رأسه بين يديه، وتابع صلاح حديثه: «أعتقد أنه لابد من عودة نجيب».. وظل جمال عبدالناصر صامتا لايجيب.. وقال صلاح سالم: «سأبلغ الخبر للإذاعة»، واستمر صمت جمال عبدالناصر، وكرر صلاح عبارته فى إلحاح، ولم ينطق جمال عبدالناصر، وظل محتفظا بصمته وأفكاره، ولم يجد صلاح سالم بدا من تبليغ الإذاعة بخبر عودة محمد نجيب».
يضيف «حمروش»: «فوجئ أعضاء المجلس فى منازلهم ببيان تذيعه الإذاعة فى السادسة من مساء يوم 27 فبراير،مثل هذا اليوم، عام 1954 يقول: «حفاظا على وحدة الأمة يعلن مجلس قيادة الثورة عودة الرئيس اللواء محمد نجيب رئيسا للجمهورية، وقد وافق سيادته على ذلك»، وصحب هذا البيان بيان آخر تكررت إذاعته: «تعلن قيادة الثورة أن أى إخلال بالأمن فى أنحاء البلاد سيقابل بشدة وعنف».
ويروى محمد نجيب فى مذكراته «كنت رئيسا لمصر»، أنه فى فجر نفس اليوم «27 فبراير» قام من نومه على صوت نقر على شباك غرفة نومه، فطلب من الطارق أن يحضر من الباب الأمامى، فوجد ثمانية ضباط من شباب سلاح الفرسان على رأسهم الصاغ خالد محيى الدين: «انتحى خالد بى جانبا وقال لى: «إن المجلس قرر تعيينى رئيسا للوزراء، وطلب منى أن أعود لمنصبى كرئيس للجمهورية، وقال لى: لوقبلت فإن أعضاء المجلس الآخرين سوف يصوتون لصالحنا، وعلمت منه أنهم عقدوا فى سلاح الفرسان اجتماعا عاصفا حضره جمال عبدالناصر، اعترضوا فيه على استقالتى، وأصروا على عودة الديمقراطية، فاقترح عليهم جمال سالم أن يعقد اجتماع عاجل لمجلس قيادة الثورة، يعرض عليه اقتراحا بعودتى لرئاسة الجمهورية وتعيين خالد محيى الدين رئيسا للوزراء، وهذا حدث فعلا، فقلت له: سوف أدرس الموضوع بشرط أن يتعاون معى كل الزملاء كما كانوا من قبل وتركنى خالد ورفاقه ليعودا إلى المجلس».
ما هى القوى الشعبية والسياسية التى كان لها الهيمنة على تنظيم المظاهرات فى هذا الحدث؟
السؤال نجد جانبا من الإجابة عليه فى مذكرات على عشماوى آخر قادة التنظيم السرى لجماعة الإخوان، الصادر عن «مركز ابن خلدون– القاهرة»، حيث يؤكد أن الجماعة كان لها الدور الرئيسى فى ذلك، ويقول: «تم ترتيب مظاهرة فى القاهرة، واستدعينا جميعا للاشتراك فيها والترتيب لها، وكانت هناك أصوات كثيرة تنادى بوجوب تسليح المجموعات داخل المظاهرة للرد على أى اعتراض من الحكومة، فقد كانت المشاعر ملتهبة خاصة بعد حل الجماعة (12 يناير 1954 ) والقبض على مجموعة منهم، لكن تقرر أن تكون المظاهرات سلمية وبدأت من جامعة القاهرة».
وخرجت مظاهرات الإخوان يوم 28 فبراير تأييدا لنجيب.