في ليلة صيفية بشهر يوليو 2016، تواترت الأنباء عن محاولة للإطاحة بعرش الديكتاتور رجب طيب أردوغان، ليخرج خلالها عبر تطبيق "فيس تايم"، داعيا أنصاره، للخروج لحماية نظامه، لينتهى الأمر بعد ساعات، ليخرج "الخليفة" المزعوم زاهيا بانتصاره تارة، وشعبيته الزائفة تارة أخرى، ويطلق على إثر ذلك حملات شعواء لاعتقال كافة صنوف المعارضة، بذريعة "الانقلاب"، لتشمل موظفي الحكومة والسياسيين، بينما كان النصيب الأكبر من حملة القمع للمؤسسة العسكرية، والتي أصابت النظام الحاكم في أنقرة بحالة من الهلع، على خلفية دورها التاريخى، الذى تقوم به منذ ثورة مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، والتي ترجع إلى عام 1923، والذى يقوم في الأساس على حماية الهوية العلمانية لبلاد الأناضول.
ومع مرور الأيام، ربما تكشفت حقيقة مفادها أن المحاولة المزعومة لم تكن أكثر من "مسرحية"، وهو الأمر الذى فسرته إجراءات النظام، والذى سعى إلى تصفية المؤسسات الحكومية من أي صوت معارض، حيث أحال ألاف الموظفين، بل وقيادات الجيش، للتقاعد، بحيث يدور الجميع في فلك الديكتاتور، الباحث عن "الخلافة"، وهو الأمر الذى كشفه بعد ذلك عددا من الصحفيين، من بينهم الصحفى أحمد دونميز، والذى يعيش في السويد، حيث أكد أنه حصل على وثيقة تضمنت تفاصيل الأحداث التي شهدتها أنقرة في تلك الليلة، ولكنها صدرت قبل بدء الأحداث بحوالي 4 ساعات كاملة، في انعكاس صريح للعبة التي أدارها أردوغان ورجاله، والتي حملت في طياتها العديد من الأبعاد التي مازالت تتكشف حتى الآن رغم مرور السنوات.
الباحث عن الخلافة.. استهداف المعارضة في الداخل والخارج
إلا أن الاعتقالات وإخلاء المؤسسات التركية من المعارضين لم يكن أكثر من هدف "قصير المدى"، للديكتاتور التركى، وراء مسرحيته الشهيرة، بينما كانت تحمل في طياتها العديد من الأهداف الأخرى بعيدة المدى، تمثل انعكاسا صريحا لأهدافه المشبوهة، على المستويين الدولى والإقليمى، في ظل طموحاته، والتي تتبلور في تحقيق المزيد من الهيمنة والنفوذ، تحت إطار "وهم" إحياء الخلافة العثمانية، عبر إثارة الفوضى في دول المنطقة ودعم الميليشيات الإرهابية المسلحة، بالإضافة إلى إضفاء قدرا من الشرعية الدولية على حملات القمع التي أطلقها نظامه، حيث بقى حديثه عن "الانقلاب" بمثابة المبرر الذى انبرى لاستخدامه في مواجهة تقارير المنظمات الدولية وانتقادات الحكومات الأخرى، خاصة من حلفائه الغربيين، كما أنها منحته قدرا من المناورة عبر التقارب مع روسيا، في ظل ما روج إليه نظامه، من ادعاءات حول "تخلى" الحلفاء عنه.
لم تتوقف محاولات أردوغان على تصفية المعارضة السياسية على الداخل التركى، وإنما امتدت إلى الخارج، وهو ما تجلى بوضوح في مطالبته للولايات المتحدة بتسليم المعارض فتح الله جولن، تحت نفس الذريعة، باعتباره مسئولا عن المحاولة التي استهدفت الإطاحة به من السلطة في أنقرة، وهو الأمر الذى رفضته الولايات المتحدة، سواء في عهد إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، والذى كان يعد أحد أهم حلفاء أردوغان، أو خلال حقبة الرئيس الحالي دونالد ترامب.
من الميليشيات للجيش.. أردوغان يقامر بجنوده في مستنقع الصراعات
ولكن لم تتوقف أبعاد المسرحية الشهيرة، على مجرد استهداف المعارضة السياسية في بلاده، سواء في الداخل أو الخارج فقط، وإنما امتدت إلى استهداف الجيش التركى، عبر إخلاءه من القيادات التي طالما أمنت برسالة المؤسسة العسكرية، في ظل مخطط بعيد المدى، يهدف في الأساس إلى الزج بالجيش التركى في صراعات إقليمية دامية، وعلى رأسها الأزمة السورية لتأمين طموحات الديكتاتور المشبوهة، وهو الأمر الذى لم يكن من السهل قبوله، في البداية، خاصة بعد الدخول العسكرى الروسى في سوريا، حيث لم يكن بمقدور الجيش التركى دعم ميليشيات أردوغان، في مواجهة قوة عسكرية بحجم موسكو.
يبدو أن الديكتاتور أدرك أن الجيش التركى بقياداته السابقة لن تقبل مثل هذه المقامرات الصبيانية، وبالتالي اعتمد على الميليشيات الإرهابية لتحقيق طموحاته، عبر فتح أراضيه أمام الإرهابيين من كل أنحاء العالم، لدخول الأراضى السورية، بالإضافة إلى تقديم السلاح والعتاد لهم، في سبيل نشر الفوضى، وإسقاط النظام، إلا أنه في النهاية ربما لم يجد طريقا أخر سوى إدخال الجيش على خط المعركة المحتدمة، بعد الهزائم المتلاحقة التي أصابت ميليشياته سواء في سوريا أو العراق، أو حتى في ليبيا، وهو ما بدا أولا في دفع القوات التركية نحو العدوان على منطقة الشمال السورى، تحت ذريعة دحض الأكراد، بينما كان الهدف الرئيسى هو إحياء داعش من جديد، وعندما فشل، دفع بهم نحو إدلب، لحماية ما تبقى من الميليشيات، لينتهى الأمر بمأساة سقوط 34 جنديا تركيا في غارات جوية أطلقها النظام السورى المدعوم من روسيا.
سيناريو الخيانة.. مشهد أردوغان امتداد للعلاقة بين الجماعة والمؤسسات العسكرية
وهنا يمكننا القول بأن مسرحية "الانقلاب"، لم تكن مجرد محاولة للقضاء على أصوات المعارضة، وإنما تمثل جريمة خيانه متكاملة الأركان، للجيش التركى، وهو الأمر الذى يمثل تكرارا لمشاهد أخرى كان أبطالها زملائه في "الجماعة" الإرهابية، عبر تسليم الأسرار العسكرية لدول أخرى، فى امتداد صريح لسيناريو العلاقة بين التنظيم الذى ينتمى له أردوغان من جانب، والمؤسسات العسكرية من جانب آخر.
الصفعة التي تلقاها الجيش التركى في سوريا، والتي أسفرت عن مقتل العشرات من الجنود، ربما تكون بداية لمسلسل من الصفعات في المرحلة المقبلة، وهو الأمر الذى قد ينبئ بمخاطر كبيرة عل مستوى المؤسسة العسكرية التركية في المستقبل، مما يطرح تساؤلات حول ما إذا كان الجيش التركى سوف يستمر في مجاراة أوهام "الباحث عن الخلافة"، أم أن هناك رؤية أخرى، لحماية الجنود الأتراك، خاصة وأن السياسات التي باتت تتبناها الدول في الآونة الأخيرة تقوم على فكرة عدم الزج بالجيش في مستنقعات الصراعات الإقليمية، وهو ما بدا واضحا في القرارات الأمريكية بالانسحاب من سوريا، والاقتراب من الانسحاب العسكرى من أفغانستان، رغم الإمكانات الكبيرة للجيش الأمريكي، لحماية الجنود.