كانت قرية «سلام» بمحافظة أسيوط على موعد مع ولادة طفلها «نظير جيد» يوم 3 أغسطس 1923، وكانت مدينة القاهرة على موعد لاستقرار «نظير» فيها عام 1936، وكان عام 1947 هو وقت تخرجه فى قسم التاريخ بكلية الآداب، جامعة فؤاد الأول، بتقدير ممتاز، وفى 31 أكتوبر 1971 يتم انتخابه بطريركًا للأقباط الأرثوذكس، ليصبح «شنودة الثالث» الذى توفى يوم 17 مارس مثل هذا اليوم عام 2012.
أضفى «شنودة» على منصبه الروحى سمات استدعت تداخل الدين بالسياسة، وكانت انعكاسًا لحالة شهدتها مصر، تصدرت فيها الجماعات الدينية المتطرفة المشهد، منذ بدايات تحالف الرئيس السادات مع جماعة الإخوان، ببدء الإفراج عنهم من السجون عام 1972، «راجع: خريف الغضب، محمد حسنين هيكل - مذكرات عبد المنعم أبو الفتوح، إعداد حسام تمام، دار الشروق، القاهرة».
ولد «نظير» فى أسرة ميسورة الحال، فحسب قوله لغالى شكرى فى كتاب «الأقباط فى وطن متغير»، عن «كتاب الأهالى، القاهرة» كان والده من أغنياء الصعيد، وكان الجد يملك 500 فدان من أجود أراضى الصعيد، أما والدته فهى بلسم جاد من أبنوب الحمام، وورثت عن والديها 30 فدانًا، ورغم هذا الثراء عاش «نظير» محنة الحرمان من الأم التى توفيت بعد ولادته بحمى النفاس، فأرضعته مسيحيات ومسلمات.
ويكشف أساس تكوينه الثقافى: «فى بيتنا كانت هناك مكتبة كبيرة أغلبها كتب دينية، وكان والدى يدمن القراءة.. فى السنة الثانية تعلمت الشعر، وفى الثالثة الثانوية، الأولى الثانوية الآن، عثرت على كتاب عنوانه «أهدى سبيل إلى علمى الخليل»، فكنت أذهب إلى دار الكتب يوميًا فى الصباح والمساء لأقرأ فى الكتاب وأنسخه، ومنه تعلمت قواعد النظم من التفاعيل والأوزان والبحور، وتدريجيًا جرؤت على تسمية ما أكتبه شعرًا،وفى الرابعة الثانوية كنت أحفظ عشرة آلاف بيت من الشعر».
يذكر«هيكل» عنه فى كتاب «خريف الغضب»: تخرج فى كلية الآداب وأصبح صحفيًا وكاتبًا وشاعرًا قبل أن ينخرط فى سلك الرهبنة، وعُين أسقفًا للتربية فى الكنيسة، وعندما أنشئت الكاتدرائية «افتتحت رسميًا 25 يونيو 1968»، استن تقليدًا مشهورًا، هو درس الجمعة «يعيد إلى الذاكرة درس الثلاثاء الذى اشتهر به حسن البنا، المرشد العام للإخوان»، وأصبح درس الجمعة مناسبة مهمة فى حياة الكنيسة القبطية.. كان الألوف يتقاطرون لسماعه، وأصبح معبود الشباب، وحين أصبح بطريركًا كان، وفقا لـ«شكرى»: «أول بابا يدعى من رئيس الولايات المتحدة إلى البيت الأبيض، وأول بابا فى العصر الحديث يستأنف الحوار مع رئيس الكنيسة الكاثوليكية، بابا روما، وأول بابا يدخل سفارة السعودية فى مشهد استثنائى لا نظير له من قبل، وأول بابا يعقد هذه الصلة الحميمة بمنظمة التحرير الفلسطينية، فلا يصل ياسر عرفات إلى مصر إلا وتكون زيارة البابا شنودة بين أولويات جدول أعماله، وبالرغم من تفرقته بين الدين والسياسة، فإن مواقفه الوطنية هى محور فكره وسلوكه فى مختلف المواقع والقرارات والدوائر السياسية والاجتماعية، وربما كانت أقرب الصفات التى تلائمه أنه جمع بين سمات الفلاح المصرى الأصيل وبنيان الفيلسوف،وهذا الفلاح الفيلسوف هو الذى جمع بين الزهد فى أمور الدنيا لدرجة التوحد،وبين زمام القيادة التى جعلت منه زعيمًا روحيًا كبيرًا بكل المقاييس».
عزله السادات ضمن حملة 5 سبتمبر 1981 التى شهدت اعتقال نحو 1500 من رموز المعارضة المصرية،ويؤكد «شكرى» و«هيكل» أن قرار العزل سببه موقف الكنيسة والبابا من إسرائيل. يذكر «هيكل» أن السادات أخطر البابا بأنه «أما وقد تم الصلح مع إسرائيل وتحقق السلام،يسعده أن يبلغ البابا بأن طريق الحج إلى الأماكن المقدسة أصبح مفتوحًا»،لكن البابا رفض هذه الفكرة،ورد على رسل «السادات»: «أرجوكم إبلاغ الرئيس أننى لا أرى الوقت مناسبًا لتنفيذ اقتراحه»، ويؤكد «هيكل»: «لم يكتف بهذا، وإنما وجه نصيحته إلى عدد من الأقباط البارزين فى مجال السلطة بأن يقللوا من ظهورهم فى مجال العلاقات مع إسرائيل،لأن هذا من شأنه أن يحدث ردود فعل غير ملائمة على وضع الأقباط،ليس فى مصر وحدها،ولكن فى العالم العربى كله».
ويذكر «شكرى»: «كانت إسرائيل تعلم أن الأنبا شنودة الذى أصدر كتابين ضدها فى 1966 و1971، هو نفسه الذى حرم على الأقباط زيارة القدس، بل عندما سألته إحدى الصحف المصرية عما إذا كان يقبل بتدويل المدينة، أجاب: القدس قبل الاحتلال اليهودى كانت مدينة عربية، وإذا تم تدويل القدس، فمعنى هذا أن العرب قد تنازلوا بالتمام عن حقهم فيها، وتنازلهم عن حقهم فى القدس يتطور إلى طلب إسرائيل فى أن تظل يهودية».