فوجئ الحاضرون فى مؤتمر قادة أحزاب دول الشمال الأفريقى اللاجئين فى مصر بشاب يطلب الكلمة، فسمحوا له، وتحدث بالفرنسية فى اجتماع عربى، ينعقد فى القاهرة بواسطة جامعة الدول العربية، لمناقشة تقديم الدعم لهذه الأحزاب لتحرير بلادها من الاستعمار الفرنسى صاحب اللغة التى يتحدث بها هذا الشاب.
كانت مصر تقف وراء هذا الاجتماع، وكان فتحى الديب مسئول الشئون العربية فى رئاسة الجمهورية وضابط المخابرات المصرية هو الذى يحركه من وراء الستار، يساعده عزت سليمان، والإذاعى الشهير أحمد سعيد، رئيس إذاعة صوت العرب، وكان ذلك فى سياق تنفيذ خطة «الديب» التى ناقشها مع جمال عبدالناصر لتحرير البلاد العربية الواقعة تحت الاحتلالين الفرنسى والإنجليزي، وكان هذا الاجتماع هو التأسيس الأول لتقديم مصر كل المساعدة للثورة الجزائرية التى انطلقت شرارة كفاحها المسلح الأول من نوفمبر 1954..«راجع، ذات يوم 3و4 إبريل 2020».
يذكر أحمد سعيد فى مذكراته «غير منشورة وبحوزتى نسخة منها وكنت أقوم بمراجعتها معه».. أن هذا الاجتماع الذى بدأ يوم 3 إبريل 1954، وتواصل فى جلسة ليل 4 إبريل وفيها، قال عبد المنعم مصطفى أمين مساعد الجامعة العربية ورئيس الاجتماع، إن جلستنا اليوم تبدأ بسماع وجهة نظر إخواننا الجزائريين، وكانت المفاجأة فى رفع الشاب مزيانى مسعود يده طالبا الكلمة».. يتذكر«سعيد» فى الفصل الخاص من مذكراته بعنوان «الجزائر بلد المليون شهيد ومخاض ثورة فى مكاتب صوت العرب»، أن رئيس الاجتماع الأمين المساعد تردد وهو يوجه نظرة سريعة إلى فتحى الديب، فى نفس الوقت الذى كان فيه محمد خيضر «ممثل حزب الشعب الجزائرى» يهز رأسه موافقا وهو يقول: «نعم ليبدأ كلام الجزائر بمزيانى مسعود، ويتبعه أحمد بيوض، مشيرا بكف يده اليمنى إلى مزيانى بأن يبدأ فى الحديث».
بدأ مزيانى حديثه، ويتذكر فتحى الديب مفاجأته فى كتابه «عبد الناصر وثورة الجزائر» قائلا: «قدم نفسه باللغة الفرنسية معتذرا فى بداية حديثه أنه مضطر للتحدث بها التى يعتقد أننا نفهمها، معللا اعتذاره بأنه لا ذنب له فى ذلك، ملقيا اللوم على الاستعمار الفرنسى الذى فرض على الجزائر والجزائريين الإرهاب العسكرى والاستعمار الثقافي، وحرمهم من الإلمام بلغة آبائهم وأجدادهم ولغة القرآن الكريم كتاب دينهم، بل حرمها عليهم مبدلا إياها وإجباريا باللغة الفرنسية، فأصبح هو ككل شعب الجزائر غير قادرعلى التعبير عما يجيش بصدره أو حتى التعامل مع الآخرين بغير اللغة الفرنسية، وطلب من الجميع أن يغفروا له عدم قدرته على التعبير بالعربية».
يضيف «الديب»: «انطلق الشاب وفى انفعال صادق يعبر من أعماقه وبلغة فرنسية سليمة، وكثيرا ما أثار مشاعرنا بصدق تعبيره والتزامه بالصراحة التامة والنقد الموضوعى لكل ما سمعه ولمسه من تعامله السابق مع كافة النوعيات الحزبية».. قال الشاب: «إنه يعبر عن شباب الجزائر الذى كفر بالممارسات الحزبية والنضال السلمي، وإن أخوة له من أبناء الشعب الجزائرى المخلصين آمنوا بأن الكفاح المسلح هو الطريق الإيجابى الوحيد لتحرير وطنهم، وأنهم لا يطلبون مالا، وإنما يطلبون سلاحا ليقاتلوا به ويموتوا عليه».
يضيف الديب: «رغم وجود السامعين من ممثلى تونس والجزائر، كانت سعادتى فى قمة ذروتها بما احتوته كلمات الثائر الشاب من معانٍ وقيم مست الوتر الحساس فى نفسي، رغم اندفاع ممثلى تونس والمغرب إلى التأكيد على ما سبق أن قالوه بالأمس من أن الوضع فى الجزائر لا يسمح بأى كفاح مسلح مستمر ومؤثر،بعكس الوضع فى الجناحين تونس والمغرب، وأنه لا أمل لنجاح أى كفاح جزائري، ما لم يتحرر البلدان أولا».
يتذكر «سعيد» فى مذكراته، أن الاجتماع بدأ يتكهرب بسبب بعض الحضور من التوانسة والمغاربة، وتدخل هو بعد تبادل نظرات بينه وبين فتحى الديب، قائلا: «ياحضرات.. فرنسا حاليا مرهقة عسكريا واقتصاديا وبشريا ونفسيا بعد هزيمتها الساحقة فى «دين بيان فو الفيتنامية «، وزاد إرهاقها بثورة المغرب ضدها لخلعها السلطان محمد الخامس، ووجود مقاومة فى تونس.. فما بالكم لو اشتعلت ثورة ضدها فى الجزائر.. أنا على ثقة من واقع استقرائى لتاريخ الثورات والحروب، أن فرص تونس والمغرب فى الاستقلال أضمن وأسرع باشتعال ثورة فى الجزائر وتأمين استمرارها».. يؤكد سعيد، أنه بعد كلمته أعلن رئيس الاجتماع بحسم، أن الجامعة العربية لن تقدم أى دعم ما لم تكن هناك جبهة واحدة، تضم كافة الأحزاب والجماعات التى تنادى باستقلال أقطار المغرب العربى».
يتذكر سعيد، أنه فى الساعة الحادية عشرة وسبعة وخمسين دقيقة من ليل 4 إبريل 1954، تم توقيع ممثلى أحزاب تونس والمغرب والجزائر على ميثاق إنشاء لجنة «تحرير المغرب».. يضيف: «فى صباح اليوم التالى 5 إبريل، مثل هذا اليوم، 1954، ذهب محمد خيضر بمزيانى مسعود إلى مكتب فتحى الديب فى بالمخابرات العامة، معلنا مضيفه بأنه سيترك له مزيانى ليبوح له وحده كمسئول مصرى بأسرار زملاء ه فى الجزائر».. يؤكد سعيد: «استغرقت الجلسة الأولى أكثر من ثلاث ساعات من المصارحة، بدءا من أن مزيانى مسعود اسم مستعار حتى لا يقع فى أيدى مطارديه الفرنسيين، بعد فراره من السجن إثر عملية مكتب بريد وهران لتمويل التنظيم الثورى الناشئ، وأن اسمه الحقيقى «أحمد بن بيلا» المكلف من زملائه بالتعرف على موقف حكومة الثورة فى مصر من أى تحرك ثورى مسلح فى الجزائر».