على الرغم من التوقعات الكبيرة التي تزامنت مع اندلاع أزمة "كورونا"، والتي دارت في معظمها حول تراجع المكانة الدولية التي تحظى بها الصين على المستوى الدولى، خاصة وأن الفيروس القاتل خرج من أراضيها، لينتشر في كافة بقاع الأرض، تمكن النظام الحاكم في بكين الخروج بانتصارات كبيرة من رحم الأزمة، خاصة على المستوى السياسى، عبر إثبات قدرته الغير محدودة على احتواء أزمته الداخلية أولا، عبر قبضة حديدية، فشلت قوى أكثر تقدما في فرضها على شعوبها، من خلال إجراءات صارمة اتخذتها تجاه مواطنيها، لحمايتهم، ثم بعد ذلك على المستوى الدولى من خلال تعميم التجربة الصينية، بالإضافة إلى تقديم الدعم لكافة الدول المنكوبة، لتصبح الصين بؤرة اهتمام العالم، وبوصلته في مواجهة الخطر الداهم الذى بات يمثل تهديدا للسلم والأمن الدوليين.
فلو نظرنا إلى الدور الصينى على المستوى الدولى، نجد أن ثمة اختلافا كبيرا في مرحلة "ما بعد كورونا"، في ميزان القوى الدولية، لصالح بكين، خاصة بعد نجاحها في اقتحام مناطق تعد بمثابة عمقا استراتيجيا للولايات المتحدة، لعقود طويلة من الزمن، على غرار أوروبا، أو حلفاء واشنطن في آسيا، في ظل سياسة التخلي الأمريكي عن الحلفاء، والتي بدأتها الإدارة الأمريكية، منذ بداية حقبة الرئيس دونالد ترامب، وهو ما بدا في الإجراءات التجارية والدفاعية المتواترة التي اتخذتها أمريكا في السنوات الماضية، والتي ساهمت بصورة كبيرة في تضاؤل ثقة الحلفاء في أمريكا من جانب، وسعيهم نحو إيجاد بديل من جانب آخر.
بعدا جديدا للصراع.. بكين تقتحم مناطق نفوذ واشنطن
ولعل الصين تمثل أحد أبرز البدائل أمام حلفاء واشنطن التاريخيين في المرحلة الراهنة، في ظل نجاحها في تجاوز مرحلة الخطر، فيما يتعلق بأزمة كورونا، وبالتالي فتبقى هناك حاجة ملحة، لتعميم تجربتها، في أوروبا وآسيا ومناطق أخرى بالعالم، لتصبح بكين بمثابة البوصلة لتجاوز التهديد الذى بات يؤرق العالم بأسره، وهو الأمر الذى ساهم في تقوية شوكتها، ليس فقط على المستوى السياسى، فيما يتعلق بصراعها لمزاحمة الولايات المتحدة على قمة النظام الدولى، وإنما أيضا على المستوى الاقتصادى، في ظل تزامن الأزمة الدولية الراهنة، مع الصراع التجارى الصينى الأمريكي، في إطار الحرب التي أطلقتها إدارة ترامب على بكين في السنوات الأخيرة، لتحقيق قدر من التوازن في الميزان التجارى.
وهنا أصبح فيروس "كورونا" بمثابة بعدا جديدا للحرب بين واشنطن وبكين، في الأسابيع الماضية، حيث كان بمثابة الثغرة الذى حاولت إدارة ترامب استغلالها لممارسة المزيد من الضغوط، على الخصم الصينى، عبر مسارين، الأول يقوم على تخويف الدول الأخرى من التجارة معها، وهو ما بدا في حرص الرئيس الأمريكي، ووزير خارجيته مايك بومبيو، في مناسبات عدة، على وصف الفيروس بـ"الصينى"، وهو ما رفضته الحكومة الصينية، باعتباره محاولة لتشويه صورتها أمام العالم، في حين كان المسار الأخر سياسيا، من خلال الحديث المتواتر من قبل مسئولي الإدارة عما وصفوه بـ"سياسة التعتيم"، حيث اتهموا بكين بإخفاء الحقائق عن تفشى الفيروس في البداية مما ساهم في تفاقم الأوضاع بصورة كبيرة في العالم.
فشل أمريكى.. "كورونا" عززت وجود بكين في الأسواق العالمية
إلا أن المحاولات الأمريكية ربما لم تحقق الجدوى المستهدفة، خاصة مع زيادة رقعة الوباء بصورة كبيرة، وخروجه عن السيطرة في العديد من الدول، ومن بينهم حلفاء واشنطن، والذين لم يجدوا بدا من الاستعانة بخدمات بكين، فى ضوء نجاحها فى الداخل، من جانب، بالإضافة إلى تخلى واشنطن عنهم، من جانب أخر، وبالتالى تزايد النفوذ الصينى بصورة كبيرة فى مناطق محسوبة حصريا على الولايات المتحدة، بينما لم يقتصر على النفوذ الصينى المتنامى على الجانب السياسى، وإنما امتد إلى الفوز بنقاط إضافية فى الصراع التجارى مع واشنطن.
أزمة كورونا ساهمت بصورة كبيرة في تعزيز الوجود الصينى في الأسواق العالمية، ليس فقط على مستوى السلع والخدمات التقليدية، التي طالما اشتهرت بكين بتقديمها للعالم، وإنما امتدت إلى اقتحام مجالات يتمتع فيها "المعسكر الغربى" بشهرته التاريخية بها، وعلى رأسها المجال الطبي، في ظل عجز دول القارة العجوز على تلبية الاحتياج المتزايد على الأجهزة الطبية، نظرا للارتفاع الكبير في أعداد الإصابات، وهو الأمر الذى دفع بعض الدول إلى استيراد المزيد منها من بكين في الأسابيع الماضية، ليساهم الفيروس القاتل في خلق منافذ جديدة للتجارة الصينية مع العالم، وهو ما يمثل بعدا جديدا للنجاح الصينى في اختراق القيود التي تسعى إدارة ترامب فرضها على التجارة بين بكين ومحيطها الدولى، وبالتالي تكبيل الاقتصاد الصينى في المرحلة المقبلة.
انتصار من رحم الأزمة.. الصين تعزز مكانتها في "عالم ما بعد كورونا"
وهنا يمكننا القول بأن الإقبال منقطع النظير بين دول العالم، على الحصول على أجهزة تنفس صناعى من الصين في المرحلة الراهنة، خاصة في دول أوروبا المتقدمة في هذا المجال، يعد بمثابة انتصارا جديدا لبكين على الولايات المتحدة، في ظل نجاح المصانع الصينية على تلبية الطلب الداخلى أولا، مع بلوغ الأزمة ذروتها في الداخل الصينى، ثم بعد ذلك توسيع خطوط الإنتاج، لتحقيق طفرة تصديرية إلى دول العالم، بالرغم من المحاولات الأمريكية المستميتة لتقويض التجارة بين الصين والعالم، سواء من خلال سلاحى التشويه أو التخويف.
لم يتوقف الاعتماد الصينى في التصدير، في المرحلة الراهنة، على أجهزة التنفس الصناعى وغيرها من الأجهزة الطبية، ولكنها عملت على توسيع عملية الإنتاج فيما يتعلق بالأدوات الوقائية العادية، كالكمامات، والقفازات الطبية، في ظل احتياج الأسواق لها مع تنامى الطلب عليها بصورة كبيرة، مع تواتر الأخبار عن انتشار الفيروس، حيث اعتمد عليها قطاع كبير من الدول الآسيوية، خاصة مع بداية الأزمة، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لنجاح بكين في استغلال الأزمة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية والاقتصادية، مما يساهم في تعزيز حقيقة مفادها أن الصين سوف تلعب دورا محوريا في "عالم ما بعد كورونا".