"حريتك أثمن من حياتك "، " إذا أردت الحرية فاحترم حرية غيرك ".. لم تكن هذه العبارات شعارات فى مظاهرات، لكنها بعض من فيض عبارات حملها غلاف كراس مدرسى كان يتداوله تلاميذ المدارس فى مصر لسنوات عدة فى فترة الستينيات .
عبارات الغلاف ضمت أيضا : "الحياة محبة وتعاون والدين المعاملة "، و" احترم مدرستك فإن لها حرمة المعبد "، و"احرص على أن يكون سلوكك فى المجتمعات عنوانا كريما لوطنك المفدى بكل ما هو نفيس "، و"تعود الصدق فى قولك مهما كلفك من مشقة " و" تعود على الادخار من صغرك لتنير مستقبلك وتبنى مجد وطنك "، وأخيرا "لا تكن ثرثارا بين الناس" فضلا عن عبارات تستهدف أن تبث فى نفوس متلقيها معانى العطاء والفداء للوطن .
عبر سنوات أخرى تالية كانت أغلفة الكراسات تحمل عبارات، وأحيانا موضوعات، عن سيناء وعن رموز فى تاريخ مصر، لتأتى مرحلة أخرى حملت فيها أغلفة الكراسات المدرسية عبارات من قبيل " اغسل يديك قبل الأكل وبعده " و"النظافة من الإيمان " و"لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد " ، لتختفى تلك العبارات والإرشادات والتوجيهات مع أمور كثيرة اختفت تدريجيا من حياة المصريين وحلت محلها أمور أخرى، بدا أن لها سيطرة كبيرة على توجيه سلوكيات متلقيها، تحت وطأة تغيرات وتطورات تكنولوجية تحكمت فى العالم كله وليس فى مصر وحدها .
صحيح أن تلك التطورات طالت مختلف شعوب الأرض وكان لها دورها فى التحكم فى سلوكياتهم، لكن الصحيح أيضا أن المصريين تفردوا عن غيرهم من شعوب الأرض ومنذ قديم الزمان بابتداع أساليب لتوجيه سلوكياتهم، ما أنتج خصائص اتسم بها سلوكيات المصريين على مر الزمان، بدء من كتاباتهم على معابدهم فى عصور الفراعنة ووصولا إلى أغلفة "كراريس " التلاميذ .
"الكراسة " كان لها دورها الكبير فى تشكيل سلوكيات التلاميذ فى سن مبكرة من حياتهم، لتصبح نقشا على حجر، تحتفظ به ذاكرة التلميذ على مدى سنى حياته، وتنتقل منه إلى من حوله فى بيته أو الدائرة القريبة منه، ولتصبح الكراسة على مدى عقود واحدة من أسلحة تشكيل وتوجيه الوعى، خاصة مع تنوع ما كانت تحمله من إرشادات وتوجيهات تطال مختلف مناحى الحياة، وتحدث تارة عن النظافة الشخصية، وأخرى عن أهمية الوقت فى حياة الإنسان، وثالثة عن سلوكيات مطلوبة فى حياة الإنسان كالصدق ورابعة عن سلوكيات مكروهة كالثرثرة، وأخرى عن معانى عظيمة كحب الوطن والاستعداد لافتدائه، وهى عبارات كانت تكملها أسوار المدارس التى كانت تحمل هى الأخرى عبارات مشابهة، فيما يشبه التعبئة العامة داخل نفوس التلاميذ، وصولا لتشكيل وعى المجتمع كله، قبل أن تتداخل مع أدوات تشكيل هذا الوعى، أدوات أخرى كالتيارات المتطرفة، أو تطور وسائل الاتصال والتى صارت شريكا فاعلا فى تشكيل وعى الشعوب سلبا وإيجابا .
فى معركة الوعى والتنوير الحالية والتى أظهرت حادثة شبرا البهو بالدقهلية أنها معركة لا تقل خطورة عن معارك مواجهة الإرهاب، ومعركة الدولة الحالية فى مواجهة فيروس كورونا، بدا واضحا أننا فى حاجة لاستدعاء وتفعيل أدوات التوعية والتثقيف البسيطة ككراسة المدرسة وربطها بآليات التقدم فى الناحية التعليمية، وصولا إلى أن تتضمن المناهج التعليمية مقررات تدعم "معركة الوعى "، مثلها فى ذلك مثل المقررات الدينية ومقررات التربية الوطنية .
أدوات التنوير والتعليم والتثقيف لم تكن قاصرة من قبل على الكراسة المدرسية، فجنبا إلى جنب معها كانت الإذاعة المصرية تلعب دورا كبير فى هذا السياق وكان لها تأثيرها الكبير خاصة مع قدرتها على الوصول والنفاذ إلى فئات، كان " الراديو " رفيقا دائما لها فى حياتها وعلى مدار يومها، حتى صار المصريون يعرفون التوقيت فى يومهم بمجرد سماعهم موسيقى برنامج ما تبث من الإذاعة كبرامج "همسة عتاب " و"كلمتين وبس " و" ربات البيوت " وأبلة فضيلة "غنوة وحدوتة " و" قال الفيلسوف " و"لغتنا الجميلة " وجميعها وغيرها برامج تصدى معدوها ومقدموها لقضايا وطنية ومجتمعية مهمة، ما أحوجنا إلى نعيد التصدى لها فى الوقت الراهن، منعا لظهور حادثة جديدة كحادثة شبرا البهو، ولحاقا بما يمكن إنقاذه من أخلاقيات وسلوكيات عرف بها المصرى على مدار تاريخه وباتت تهددها منذ عقود محاولات تشويه تلك السلوكيات والعبث بها .