لم يكن أحدا مستعدا لمثل هذه الظروف التي فرضتها حالة العزل الاختياري تجنبا للإصابة بفيروس كورونا، وهذا ما يضاعف من تقديرنا لمجهودات وزارة الثقافة خلال تلك الفترة، فقد وجدت وزارة الثقافة نفسها أمام معادلة صفرية، أما أن تكون أو لا تكون، فمعظم أنشطة وزارة الثقافة تتطلب وجودا حيا، الحفلات الموسيقية والغنائية، الندوات، المعارض، الزيارات المتحفية، المؤتمرات، العروض المسرحية، كل هذه الأنشطة تتطلب علاقة مباشرة في العرض والاستقبال، وهو ما جعل مهمة الوزارة شبه مستحيلة، خاصة إذا ما علمنا أن البنية التحتية لوزارة الثقافة لا تدعم التحول الإليكتروني بالكفاءة المطلوبة، فهل صمتت وزارة الثقافة؟ من حسن حظنا أن الإجابة "لا".
لم تقف وزارة الثقافة مكتوفة الأيدي أمام تلك التحديات، وسارعت إلى استنفار نفسها بنفسها، واضعة نفسها في تحد كبير، فكيف تقدم وزارة الثقافة محتوى فني ومعرفي على قدر من الجدية والفاعلية وفي ذات الوقت لا تنزلق إلى متطلبات "سوق الانترنت" بل كيف تدخل الوزارة إلى هذا العالم الجديد نسبيا، وهي لا تملك بحسب معرفتي مواد "ديجيتال" كثيرة، أو بنية تحتية تمكنها من استيعاب المستهدف من الجمهور.
فعلتها وزارة الثقافة بإمكانيات شحيحة، وفي وقت قياسي، حيث أجبرها الواقع على الإسراع في تقديم محتوى "محترم" بشكل "محترم" ليحظى بثقة الناس ومتابعتهم، وإذا ما وضعنا في الحسبان أن تلك التجربة جديدة، وأن الجمهور لم يكن معتادا على مثل هذه السبل في عرض المحتوى الخاص بالوزارة فسنتأكد من أن مستقبل هذه التجربة واعدا، فقد سارعت وزارة الثقافة إلى عرض العديد من الحفلات الموسيقية والعديد من الأغنيات الهادفة، كما وضعت العديد من الكتب بصيغة "بي دي أف" ليتمكن عشاق الكتاب من ممارسة عادتهم المحببة، كما اجتهد مركز ثقافة الطفل في عمل محتوى على قدر كبير من الجاذبية برغم أن التجربة في مهدها وتتطلب إعدادا أفضل وإمكانيات أعلى، لكني لا أملك تجاه هذا المجهود الدؤوب سوى الإشادة والإعجاب.
تلك المؤشرات الواعدة تجعل من فكرة التحول الإليكتروني لوزارة الثقافة أمرا واجبا، فقد غابت مثلا عن تلك الصحوة العديد من القطاعات المهمة التي كان من المفترض أن تسهم بشكل كبير في إثراء هذه التجربة، كما أن وجود وزارة الثقافة على مواقع مثل انستجرام و تويتر أو تيك توك، غير فعال حيث تكتفي الوزارة بموقعي يوتيوب وفيس بوك، بالإضافة طبعا إلى مواقعها التي لا تعمل بنفس الكفاءة طوال الوقت، وقد غابت عن تلك الحالة الجميلة من الحضور الإلكتروني محتويات كان من المفترض أن تكون سباقة في هذا التواجد مثل المجلات الثقافية والجرائد والإصدارات الصحفية، ناهيك عن أرشيف وزارة الثقافة الفني والعلمي والأدبي الذي يعد الأضخم في أفريقيا والشرق الأوسط.
من هنا أرى أنه من الواجب على الوزارة أن تفكر جديا في إنشاء قطاع أو جهاز مستحدث للتحول التكنولوجي، أو على الأقل إدارة جديدة تابعة لمكتب الوزيرة، على أن يقوم هذا الكيان بإعداد خطة عرض شاملة لكل كنوز وزارة الثقافة، وأهمية أن يكون هذا الكيان مركزيا وليس تابعا لكل قطاع هو ألا يدخل إلى دولاب عمل كل قطاع على حدة فيصاب بنفس الروتين ويخضع لتوجهات رئيس القطاع سواء بالسلب أو بالإيجاب، كما أن وجوده مركزيا مستقلا يضمن عدم تكرار المواد المعروض أو تعارضها، كما أن وجوده خاضعا لسلطة الوزيرة مباشرة يضمن استمراريته وقوته.
لدى مصر أهم وأغنى أرشيف في الشرق الأوسط وأفريقيا، وقد آن الأوان لتكشف كنوزها الدفينة التي يقام من أجل شذراتها مراكز أبحاث نعرفها جيدا، ويقام على فتاتها متاحف ومعاهد ومواقع.