كان الوقت صباحا ويوافق عيد شم النسيم يوم الاثنين 25 إبريل، مثل هذا اليوم، 1859، حينما بدأ أول معول فى حفر قناة السويس، حسبما يذكر الدكتور مصطفى الحفناوى فى الجزء الأول من كتابه «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة»، مضيفا: تجمهرت الفئة التى يرأسها ديلسيبس، وكانت مؤلفة من بعض أعضاء مجلس إدارة القناة وبعض المهندسين، والمقاول الذى استأجروه، ومعهم خمسون من البحارة والعمال، ومن باب النفاق رفع ديلسيبس العلم المصرى، وألقى كلمة.
يذكر الدكتور عبد العزيز محمد الشناوى فى كتابه «السخرة فى حفر قناة السويس»، نص كلمة ديلسيبس، وكانت: باسم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية وطبقا لقرارات مجلس إدارتها نضرب أول معول فى الأرض التى ستفتح أبواب الشرق لتجارة الغرب وحضارته، إننا هنا مجتمعون تحدونا فكرة واحدة هى فكرة الإخلاص لمساهمى الشركة ولصالح منشئها وراعيها العظيم الأمير محمد سعيد، إن رحلة الارتياد التى فرغنا من القيام بها لتبعث فينا الاعتقاد أن المشروع الذى يبدأ تنفيذه اليوم، لن يكون عملا من أعمال التقدم فحسب، بل سيزيد من قيمة رؤوس الموال التى ساعدت على تنفيذه زيادة هائلة».
يؤكد «الشناوى»، أن ديلسيبس بعد أن فرغ من إلقاء كلمته أمسك بمعول وضرب به الأرض فى إحدى الحفر التى تم عملها على خط القناة، وكان ذلك إيذانا بالبدء فى عمليات الحفر، ثم تبعه أعضاء اللجنة فالمهندسون ثم سائر مستخدمى الشركة، والتفت إلى العمال المصريين وألقى فيهم كلمة أخري، قال فيها :»سيضرب كل منكم بمعوله الأرض كما فعلنا نحن الآن، وعليكم أن تذكروا أنكم لن تحفروا الأرض فقط، ولكن ستجلبون بعملكم الرخاء لعائلاتكم ولبلادكم الجميلة..يحيا أفندينا محمد سعيد باشا».. يؤكد «الشناوى»، أنه تم ترجمة هذه الكلمة للعمال إلى اللغة العربية.
يتتبع الحفناوى الفكرة منذ بدايتها حتى حصول ديلسيبس على توقيع سعيد باشا لعقد الامتياز الأول للمشروع يوم 30 نوفمبر 1854، معتبرا أن ذلك «أكبر انقلاب عرفه التاريخ فى القرن التاسع عشر».. يضيف: فى 30 ديسمبر 1854 سافر ديلسيبس من القاهرة وفى صحبته اثنان من المهندسين الفرنسيين من موظفى الحكومة المصرية للقيام بأعمال الكشف اللازمة فى برزخ السويس، وليضع ديلسيبس يده على الأرض، ويرصد الحفناوى محاولات إنجلترا لعرقلة تنفيذ المشروع، مؤكدا: كان سعيد وسط هذه الزوابع يفر فرار النعام، ويعمل على مفاداة الدخول فى جدل ومناقشات، إلى حد الامتناع عن مقابلة صديق صباه ديلسيبس، وما كان هذا الأخير ليعينه سعيد فى شىء، فقد ترك الجدل السياسى يأخذ مجراه، وراح يتلمس الحيل والأسباب ليبدأ فعلا فى أعمال الحفر.
كان ديلسيبس فى فرنسا، ووصل إلى القاهرة فى ربيع 1859 وفى صحبته بعض أعوانه، وفقا للحفناوى، مضيفا: عقدوا العزم وبيتوا النية على تحدى الجميع والبدء فى أعمال الحفر خلسة، ووضع كل المعارضين أمام الأمر الواقع، وذهب هؤلاء إلى برزخ السويس، وكان عددهم عشرون رجلا، رابطوا فى الخيمة، فباغتهم ضابط تركى على رأس خمسين من «الباشبوزق» وجماعة من البدو المسلحين، ورموهم بالرصاص ليفرقوا ما كانوا قد جمعوا من الفلاحين، وبعث ديلسيبس بكتاب احتجاج شديد اللهجة إلى ذى الفقار محافظ القاهرة يقول فيه، إن قوما مسلحين باغتوه فى الخلاء، وأنه سيقابل القوة بمثلها، ويحمل المحافظ بجميع النتائج، والعجيب أن المحافظ أجاب على هذا الكتاب بأن الوالى أصدر أوامره باتخاذ اللازم حتى لا يضايقه أحد فى أعماله.
يضيف «الحفناوى» «استدعى ديلسيبس إلى خيمته بعض البدو، وأطلعهم على مسدس به ستة عيون ينطلق رصاصها تباعا، وجربه أمامهم، وأوهمهم أن الأسلحة الحديثة الموجودة لديه ولدى زملائه تكفى للقضاء على أرواح المعتدين».. ويذكر «الشناوى» أنه فى أول ديسمبر 1859 كان عدد العمال المصريين 78 عاملا فقط من دمياط، وبعد شهر أصبحوا 330 عاملا، ثم استعان ديلسيبس بنفوذه فى فرنسا للضغط على «سعيد باشا»، لتوفير العمال اللازمين، فأصدر سعيد «لائحة استخدام العمال المصريين فى أشغال قناة السويس، لتبدأ أكبر عملية سخرة فى تاريخ مصر الحديث».
يذكر«الشناوى» العديد من أساليب السخرة منها، أن المقاول كان يحمل مسدسا يقتل به من يفكر فى الاعتراض عليه من العمال، ونتيجة لذلك سقط المئات بالرصاص، بخلاف الآلاف الذين تم قتلهم بالسياط، وأكلت الأمراض وسوء التغذية وسوء الأحوال المعيشية الآلاف».