لا يمكن إنكار أن التراث الإسلامى مهم، لأنه استطاع فى وقت ما أن يحمى هذه الأمة وأن يتحرك بها إلى الأمام، لكن مع الزمن صار الأمر يحتاج إلى إعادة نظر، يحتاج أن نخرجه من عباءة التقديس إلى رحابة العلم، أن نقبل الرأى والرأى الآخر، أن نجدد خطابنا الديني، وذلك لا يكون إلا بإعمال العقل.
صحيح أن الإمام البخارى أخذ من عمر «أبى عبد الله محمد بن إسماعيل» الكثير وأنه أهم كتب التراث وأن الرجل كان حريصا على الدقة لكنه جهد بشرى له ما له وعليه ما عليه، لكن أكثرنا لا يعتقدون ذلك وصار الاقتراب من هذا التراث للتفكير فيه كأنه «جريمة كبرى» تطارد من يحاول أن يسأل أو يفهم.
وهنا نحاول أن نقول لمن يظن نفسه قيِّما على التراث أن لا أحد يحمل معول هدم، وأن كبار العلماء المسلمين من أهل السنة والجماعة عبر القرون الإسلامية الطويلة اقتربوا من صحيح البخارى وأشادوا بجهده واختلفوا معه، وفى هذه السلسلة سنتوقف مع واحد وثلاثين عالما أعملوا عقولهم فى الأحاديث التى قدمها الإمام البخارى، وأعلنوا فى كتبهم وفى دروسهم أنهم يختلفون مع كذا وكذا، ومع ذلك لم يكفرهم أحد ولم يخرجهم أحد من دين الله، بل ظل الأمر فى إطاره مجرد اختلاف فى العلم، فهل كانت الأجيال الماضية أكثر رحابة منا وأكثر تسامحا؟
لا يوجد مثل الإمام البخارى فى تاريخ التراث الإسلامي، فقد استطاع أن يثير ضجة أينما حل هو بشخصه أو كتابه المعروف «الجامع المسند الصحيح المختصر فى أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأيامه» والمشهور عند الناس باسم «صحيح البخارى» الذى اكتسب سمعة كبيرة ألقت عليه قداسة لا ينافسه فيها سوى نص القرآن الكريم فقط.
من هو البخارى؟
اسمه بالكامل أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى، ولد فى بخارى إحدى مدن أوزبكستان الحالية عام 194 هجرية (الموافق 810م)، وحصل على مكانته بسبب جمعه للحديث النبوى، وتصنيفه لأهم كتاب فيه والذى يعتمد عليه أهل السنة بصورة أساسية فى كل حياتهم ويعتبرونه الكتاب الأتم والأشمل للسيرة النبوية.
لماذا نقدس البخارى؟
بالطبع لا يختلف أحد على قيمة الإمام البخارى فى التاريخ الإسلامى خاصة عند أهل السنة والجماعة، وحتى على المستوى الشخصى، فالكتب التى تناولت سيرة الرجل تتحدث عن تدينه وورعه وزهده، لكن مع الوقت تم تعظيم كل هذه الأشياء حتى أحاطت بالرجل وبآثاره هالة مقدسة، وصار نقد الكتاب أو صاحبه أو حتى إبداء بعض الاعتراض على معنى أو سند داخل آلاف الحديث التى اشتملها الصحيح يعد أمرا من الموبقات فى الدين ومن الكبائر وكل من أقدم عليه متهم فى دينه موصوم بالإلحاد والزندقة، وهو اتهام ورد بالنص فى عديد من كتب السلفيين ضد من تكلم حتى لو فى حديث واحد من صحيح البخارى.
واتخذ تقديس البخارى وكتابه أشكالا شتى منها ما وصل إلى حد العصمة، وأن نقده بمثابة نقد للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ولدرجة أن البعض كانوا يستأجرون رجالا يقرؤون الأحاديث النبوية فى كتاب الإمام البخارى استجلابا للبركات السماوية تمامًا مثلما يفعل الناس مع القرآن الكريم، ومن ذلك ما قال به القاسمى فى كتابه «قواعد التحديث» حيث ذكر أن «صحيح البخارى عدل القرآن، إذ لو قرئ هذا الكتاب بدار فى زمن شاع فيه الوباء والطاعون لكان أهله فى مأمن من المرض، ولو اختتم أحد هذا الكتاب لنال ما نواه، ومن قرأه فى واقعة أو مصيبة لم يخرج حتى ينجو منها، ولو حمله أحد معه فى سفر البحر لنجا هو والمركب من الغرق».
كما نقل عن أبى زيد المروزى أنه قال: كنت نائمًا بين الركن والمقام فرأيت النبى (صلى الله عليه وآله) فى المنام، فقال لي: يا أبا زيد، إلى متى تدرس كتاب الشافعى ولا تدرس كتابي؟ فقلت: يا رسول الله، وما كتابك؟ قال: جامع محمد بن اسماعيل البخارى.
وكان العصر المملوكى صاحب الحظ الأوفر فى تقديس البخارى، وتحويله إلى أصل كل شيء حتى فى علاقته بتطبيق الشريعة السنية فى العصر المملوكى الذى كان يتم بقضاء القضاة الأربعة.
وفى العصر الحديث شاركت كل المؤسسات الإسلامية فى تقديس صورة البخارى، حتى أننا نجد الدكتور أحمد عمر هاشم، رئيس جامعة الأزهر الأسبق يقول «أشهد الله أن صحيح البخارى صحيح 100% ولم أجد فيه حديثًا ضعيفًا، وقد كتبه البخارى فى الروضة الشريفة، واستخار الله قبل أن يكتب كل حديث» ويكشف ذلك التصريح البعد الصوفى الذى اكتسبته شخصية البخارى مع مرور الأزمان، فتحول من باحث علم مجتهد إلى شخص مأمور يقوم بمهمة مقدسة من الذات العلية، لذا هو بالطبع معصوم وليس معرضا للصواب والخطأ.
ولا يزال الأمر يتواصل حتى تحولت جملة مثل «هو أنا غلطت فى البخارى» إلى كلمة معبرة عما وصلت إليه مكانة الإمام البخارى بين الخاصة والعامة، وتناسى الجميع مرور أكثر من مائتى عام بين حديث الرسول الكريم وبين جمع هذه الأحاديث بين دفتى كتاب.
صحيح البخارى تاريخ مع النقد
لا ينكر أحد أن الإمام البخارى مقدمًا فى الإمامة والحفظ لكنه بشر وليس معصوما، وقد تعرض لكثير من النقد منه ما يتعلق بشخصه، ومنه ما يتعلق بمتن كتابه.
منهج العلماء فى نقد البخارى
المنهج فى التفكير يقوم على أساس أن النص القرآنى هو النص الوحيد المقدس الذى لا يأتيه الضعف ولا الباطل، فيذكر قول الله تعالى «يقول الله تعالى «أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كبيرا» وهذا الكلام يؤيده قول الإمام الشافعى «أبى الله أن يتم إلا كتابه» فلا كتاب صحيح غير منقوص وغير مختلف عليه إلا ما كان من كتاب الله العزيز.
وهنا وجبت الإشارة إلى الفارق بين نص القرآن الكريم ونص السنة، نعم هناك فارق كبير بين النص القرآنى ونص السنة النبوية يرجع ذلك إلى فكرة «الحفظ» وذلك لأن الله هو الذى يحفظ القرآن، أما السنة بوجه عام فإن الله تعالى قد أوكلها إلينا لنحفظها نحن، فحدث فيها خلط كبير، مثلما حدث فى الكتب المقدسة السابقة، فالله تعالى أوكل حفظها للأحبار اليهود والرهبان وغيرهم فحدث خلط، والبعض لدينا يظن أن السنة من عند الله اعتمادا على قوله تعالى عن النبى وما ينطق عن الهوى وفى ذلك خلط فى الفهم والاستنباط.
الأمة لم تجمع على صحيح البخارى
البخارى وصحيحه يحظيان بشعبية كبرى عند أهل السنة والجماعة لكن الأمة تشمل شيعة أيضا هؤلاء الشيعة ينتقدون الإمام البخارى فى مئات المواضع، وحتى أهل السنة أنفسهم لا يجمعون، لأن الجمع كلمة من الصعب تحققها، حسب العلماء فى جميع المسائل لا يكاد يصح إجماع، لذا فقد انتقد كبار علماء السنة والجماعة صحيح البخارى وصحيح مسلم عبر القرون الماضية.
بدأ انتقاد البخارى.. المعاصرون
بدأ انتقاد الإمام البخارى مبكرًا جدًا، بعدما بدأت شهرته تتسع وبدأ الناس يعرفونه ويعرفون علمه، وبعد انتهاء رحلته لطلب العلم فى مكة وبغداد ومصر وغيرها من البلاد صار له مجلس أينما حل أو ذهب، وصار ما يقدمه من العلم معروفًا وبدأ الناس يتنبهون إلى قوله، وذات مرة قرر الإمام الذهاب إلى «نيسابور» فى عام 250 هجرية وظل هناك قرابة 5 سنوات وهناك بدأت، ما أطلق عليه الجميع، «محنة البخارى».. فما الذى حدث؟
وصل البخارى إلى «نيسابور» واستقبله الناس بحفاوة بالغة فاستقر فى المدينة، ويبدو أن الإمام تعب من الترحال وقرر أن يظل فترة طويلة هناك، لكن فى الأفق كانت لا تزال القضية الشهيرة فى التاريخ الإسلامى المسماة «قضية خلق القرآن» موجودة نوعًا ما، فرغم ضعف تراجع امتحان العلماء فى هذا الأمر فى زمن الحليفة العباسى المتوكل إلا أن بعض العلماء كانوا لا يزالون يختبرون بعضهم البعض فيها.. وهذا ما حدث مع الإمام البخارى.
قضية خلق القرآن
فكرة «خلق القرآن» انتشرت فى عهد الخليفة العباسى المأمون وكان أصحابها «المعتزلة»، وهى ببساطة تنطلق من فكرة «أن القرآن مخلوق وكلام الله مخلوق» وبعدما اقتنع الخليفة المأمون بهذا الرأى طالب بنشره فى ربوع الدولة وعزل كل قاضٍ لا يؤمن به، وهو ما لقى معارضة البعض مثل الإمام أحمد بن حنبل.
ثم التبس على الناس الأمر فتوقف البعض فى المسألة، وقال البعض الآخر إن لفظنا بالقرآن مخلوق، وكان أول من قال بذلك هو الفقيه الحسين الكرابيسى توفى عام 248 هجرية، فأنكر عليه الإمام أحمد بن حنبل الذى توفى 241 هجرية، ذلك واعتبره من قبيل البدع، ورآه سبيلًا للتجهم والاعتزال، وقال الإمام أحمد: من قال القرآن مخلوق فهو جهمى، ومن قال: القرآن كلام الله ولا يقول: غير مخلوق ولا مخلوق فهو واقفى، ومن قال لفظى بالقرآن مخلوق فهو مبتدع.
محمد بن يحيى الذهلى ت( 258 هجرية)
كان محمد بن يحيى الذهلى عالم نيسابور الأشهر حتى مجيء البخارى لزيارة المدينة، ولما استقبله الناس بحفاوة بالغة، قرر المقام فى المدينة، وصار مجلسه أكبر مجلس علم فيها، فأثار ذلك غيرة الشيخ الذهلى فبعث من سأل البخارى عن مسألة خلق القرآن، وهل اللفظ مخلوق أما لا؟
حاول البخارى الهروب من هذه المسألة، لكنه لم يستطع، فاضطر للإجابة بأن كلامنا مخلوق، ومنها استنبط «الذهلى» أن البخارى يقول بالتلفظ، فاتهمه فى دينه، وظل يشنع عليه حتى أخرجه من المدينة، فخرج ولم يشيعه سوى عدد قليل من الناس.
لم يكن الأمر سهلًا ولم يعد الناس يلتفون حول البخارى مثلما كانوا فى البداية، فبعدما خرج من «نيسابور» سار ناحية «مرو»، يقول كتاب «تقييد المهمل وتمييز المشكل» لأبى على الغساني، لما قدم البخارى «مرو» استقبله أحمد بن سيار فيمن استقبله، فقال له أحمد بن سيار: يا أبا عبد الله، نحن لا نخالفك فيما تقول، ولكن العامة لا تحتمل ذا منك، فقال: إنى أخشى النار، أُسأل عن شىء أعلمه حقًا أن أقول غيره، فانصرف عنه أحمد سيار».
ولم ينته الأمر عند ذلك، فعندما فكر الإمام فى الذهاب إلى وطنه «بخارى» عانى الأمرين أيضًا، يقول كتاب «تقييد المهمل» لما قدم أبو عبد الله – يقصد الإمام البخارى – بخارى نصبت له القباب على فرسخ من البلد، واستقبله عامة أهل البلد، حتى لم يبق مذكورًا إلا وقد استقبله، ونثر عليه الدراهم والدنانير والسكر الكثير، وبقى بها أيامًا، فكتب بعد ذلك محمد بن يحيى الذهلى إلى خالد بن أحمد، أمير بخارى، فقال:
(إن هذا الرجل – يقصد البخارى – يظهر خلاف السنة) فقرأ الأمير كتابه على أهل بخارى، فقالوا: لا نفارقه، فأمره الأمير بالخروج عن البلد، فخرج».
الإمام أبو حاتم الرازى ت( 277 ه)
وصل الأمر ببعض كبار الشيوخ المتخصصين فى علم الحديث إلى تجريح الشيخ البخارى بشخصه واعتباره مجروحًا متروك الحديث، فقد أورد الذهبى فى كتابه «سير أعلام النبلاء» الجزء الثانى عشر «قال عبد الرحمن بن أبى حاتم فى (الجرح والتعديل) قدم محمد بن إسماعيل (البخارى) الرى سنة خمسين ومائتين، وسمع منه أبى (يقصد أبا حاتم الرازي) وأبو زرعة، وتركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى أنه أظهر عندهم بنيسابور أن لفظه بالقرآن مخلوق».
ليس هذا فقط بل إن (أبا حاتم) انتقد بعض أحاديث البخارى وبلغة أهل الحديث «أعلها» ووصل عدد هذه الأحاديث إلى 6 أحاديث نضرب مثلا بأحدها:
قال ابن أبى حاتم: سألت أبىى عن حديث رواه ابن المبارك، عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن المقدام بن معدى كرب، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال «كيلوا طعامكم، يبارك لكم فيه».
قال أبى: رواه «بقية» عن بجير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن المقدام، عن النبى صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل بينهما جبير ابن نفير. قلت لأبي: أيهما الصحيح؟ قال: حديث ثور بن يزيد، حيث زاد رجلًا.
قال البخارى: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا الوليد، عن ثور، عن خالد ابن معدان، عن المقدام بن معدى كرب رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال «كيلو طعامكم يبارك لكم».
ووجه المخالفة أنه تبين من خلال تخريج الطريقين عند «أبى حاتم» أن الطريق الثانية فيها زيادة راو هو «جبير بن نفير» بين «خالد بن معدان» و»المقدام بن معدى كرب» وقد رجح أبو حاتم هذه الزيادة عندما سأله ابنه بقوله: أيهما الصحيح؟ فقال: حديث ثور بن يزيد، حيث زاد رجلًا، هنا خالف البخارى أبا حاتم فى هذا الحديث، فرواه فى صحيحه من غير هذه الزيادة.
أبو زرعة الرازى (ت 264هـ )
يقول كتاب «أضواء على الصحيحين» للشيخ محمد صادق النجمى، يعد أبو زرعة من حفاظ الحديث وعلم من أعلام علم الرجال والعلوم الأخرى، وكان أبو زرعة بمكانته العلمية هذه ينتقد مسلم ونظائره واعتبرهم متظاهرين بالحديث ومتاجرين به، وكان يقول بأن بعض أحاديث صحيح مسلم ليس بصحيح.
ونقل عن سعيد بن عمرو: شهدت أبا زرعة الرازى يذكر كتاب الصحيح الذى ألفه مسلم بن الحجاج ثم المصوغ على مثاله - صحيح البخارى، فقال لى أبو زرعة: هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه فعملوا شيئًا يتشوفون به، ألفوا كتابًا لم يسبقوا إليه ليقيموا لأنفسهم رئاسة قبل وقتها، وأتاه ذات يوم - وأنا شاهد - رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم فجعل ينظر فيه فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال أبو زرعة: ما أبعد هذا من الصحيح يُدخل فى كتابه أسباط بن نصر، ثم رأى فى كتابه قطن بن نصير فقال لي: وهذا أطم من الأول.
وذكر «الذهبي» قصة أبى زرعة ولكنه أتى بكلمة يتسوقون - يتاجرون - بدلا عن كلمة يتشوفون – يتظاهرون.
موت الإمام البخارى
بالطبع لم يمر كل ذلك بسلام على الإمام البخارى فقد كانت النتيجة أن مات غريبا على طريق سمرقند فى عام 256 هجرية بعدما رفضت المدن الإسلامية استقباله وبعدما رفع يديه إلى السماء وابتهل إلى الله «اللهم إنى قد ضاقت علىَّ الأرضُ بما رحبت، فاقبضنى إليك».