وزير الأوقاف: نحتاج خطاب دينى مستنير يرتكز على فهم المقاصد العامة للشرع الحنيف
مختار جمعة: ابتلينا بأناس يخوضون فى كل شيء ويتجرأون على الفتوى بغير علم
إذا كان المرض عذرا لترك الجمع والجماعات فتركها خشية انتقال فيروس كورونا أولى
الإسلام منح ولى الأمر فرض الحجر الصحى والعزل المنزلى
لا حديث فى مصر والعالم الآن يعلو على الحديث عن فيروس كورونا، سواء من زاوية العلمية، حيث البحث عن علاج أو مصل للفيروس، أو من الناحية الدينية وما يتعلق بفيروس كورونا كوباء بأحكام دينية، مثل الصيام مع فيروس كورونا، وغيرها من الأحكام الدينية، وفى هذا الصدد أصدرت وزارة الأوقاف، كتاب "فقه النوازل كورونا المستجد كوفيد 19 نموذجًا".
الكتاب وضعه الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، بمشاركة عدد من الأساتذة والباحثين المتميزين المتخصصين فى الدراسات الفقهية والشرعية، ويتناول قضايا هامة تتعلق بالنوازل وخاصة فيروس كورونا مثل: "الحجر الصحي، والعزل المنزلي، وأداء العبادات والشعائر فى زمن النوازل والجوائح، وسد حاجات الفقراء وعلاج المرضى أولى الأولويات فى الزكاة والصدقات فى الظروف الراهنة، وكورونا وتعظيم ثواب الصدقة ، وتغير الفتوى وعلاقته بتداعيات فيروس كورونا (بعض مسائل الزكاة نموذجًا).
وأكد الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، أن الكتاب يؤكد عدم التناقض بين الإيمان والعلم، ويبرز حاجتنا إلى الدعاء والدواء معًـا، فليس أحدهما بديلا للآخر، ولا نقيضًا له، كما يبرز الكتاب العلاقة بين القواعد الفقهية والمستجدات العصرية، ويجيب على كثير من الأسئلة الشائكة فى بابه.
وقال جمعة: "للأسف الشديد لا يزال هناك متحجرون يقفون عند ظواهر النصوص ولا يتجاوزون الظاهر الحرفى لها إلى فهم مقاصدها ومراميها، فيقعون فى العنت والمشقة على أنفسهم وعلى من يحاولون حملهم على هذا الفهم المتحجر، دون أن يقفوا على فقه وفهم مقاصد السنة النبوية المطهرة المشرفة بما تحمله من وجوه الحكمة واليسر، ونحن فى حاجة إلى خطاب دينى مستنير يرتكز على فهم المقاصد العامة للشرع الحنيف".
وعرف مؤلفو الكتاب مفهوم فقه النوازل بـ:"هو الذى يكون بين المصالح بعضها وبعض، والمفاسد بعضها وبعض، والمصالح والمفاسد إذا تعارضت على ما سيأتى بيانه بعد ".
وفى فصل دفع الهلاك المتوقع أولى من دفع المشقة، أكد الكتاب أَنَّ رَسُولَ الله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِى رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ - وهو موضع بين مكة والمدينة- فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ . فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ . فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ . فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ"( )، وإذا كان ذلك لمجرد دفع المشقة عن الناس فما بالكم بالعمل بالرخصة لدفع الهلاك المتوقع عنهم؟.
وتابع الكتاب: "وإذا كان إجماع خبراء الصحة على أن التجمعات أخطر سبل نقل عدوى فيروس كورونا مع ما نتابعه من تزايد أعداد المتوفين بسببه فإن دفع الهلاك المتوقع نتيجة أى تجمع يصير مطلبا شرعيًّا، وتصبح مخالفته معصية، فدفع الهلاك أولى من دفع المشقة، وإذا كان رسولنا (صلى الله عليه وسلم) قد بادر بنفسه إلى الأخذ برخصة الإفطار فى السفر وهو رسول الله الذى نهى أصحابه عن الوصال فى الصوم، فعَنْ عَائِشَةَ (رَضِى الله عَنْهَا) قَالَتْ: نَهَى رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ : إِنِّى لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّى يُطْعِمُنِى رَبِّى وَيَسْقِينِ"، لكنه (صلى الله عليه وسلم) أخذ بالرخصة مع قدرته الشخصية على الصوم رفعًا للمشقة عن أمته وأصحابه الكرام، فما بالكم بدفع ما هو مؤد إلى الهلاك أو مسبب له، إن الأخذ بالرخصة فيه أولى وألزم، ومخالفته معصية، وعليه نؤكد أن مخالفة العمل بتعليق الجمع والجماعات فى الظرف الراهن الذى تقدره الجهات المختصة إثم ومعصية .
كما أكد الكتاب أننا ما زلنا فى حاجة إلى نقلة نوعية فى فهم الخطاب الدينى وفى حسن عرضه وقراءة الواقع الذى نعيشه قراءة واعية، تراعى مستجدات العصر فى ضوء حرصنا على ثوابت الشرع، رؤية تراعى بدقة بالغة ترتيب الأولويات، وفقه الواقع والمتاح، وفقه النوازل، وغيره"، مضيفًا: "تحديد درجة المفسدة والمصلحة وترجيح جانب درء المفسدة على جانب جلب المصلحة أو العكس هو اختصاص أهل الذكر والاختصاص، غير أننا ابتلينا بأناس يخوضون فى كل شيء ويتجرأون على الفتوى بغير علم".
آداب المسلم مع المحن والشدائد
وأكد الكتاب أن للمحن والشدائد آدابها، ومن أهمها: الأدب مع الله وحسن الرجوع إليه، فزمن المحن هو زمن التوبة، ومنها الأدب مع الخلق بالتراحم والتكافل، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): " الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ"، ومنها عدم المتاجرة بالأزمات، من الاستغلال والاحتكار والأنانية والشـره فى الشراء وتخزين السلع فوق الحاجة الضرورية، ونحو ذلك، فاستغلال حوائج الناس إثم كبير يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : "مَنْ دَخَلَ فِى شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ حَقًّا عَلَى الله أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ومنها طاعة ولى الأمر ومن ينوب عنه من مؤسسات الدولة فيما يتصل بتنظيم شئون الحياة ومواجهة الكوارث والأزمات، ومن ثمة فإننا نؤكد أن الالتزام بتوجيهات جهات الاختصاص فى مواجهة المحن والشدائد والأزمات واجب شرعى ووطنى وإنساني، ومنها: تعظيم العادات الإيجابية كالنظافة والطهارة والمواظبة على غسل الأيدي، بالإضافة إلى التخلص من العادات غير الحسنة كالمعانقة، فالقول بإباحة المعانقة عند من أباحها مقيد بما لم يكن هناك داء يخشى نقله من خلالها أو بسببها .
صلاة الغائب عند النوازل
وأفرد الكتاب بابا حول صلاة الغائب عند النوازل، حيث أكد أن تشييع الجنائز وشهود صلاة الجنازة من فروض الكفايات إذا قام بها أى عدد كان قلَّ أو كثرَ سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم بها أحد على الإطلاق أثم كل من علم وكان قادرًا على القيام بالواجب الكفائى ولم يتقدم للقيام به، ومما يتطلب فى الظرف الراهن تقليل عدد المشيعين للمتوفى إلى الحد الأدنى الذى تتحقق به الكفاية من الأهل والأقربين، ومن أراد الثواب العظيم، فلينوى صلاة الغائب فى بيته تطوعًا فى أى وقت من اليوم مرة كل يوم على جميع من لقى ربه فى هذه الأيام من مرضى فيروس كورونا أو من غيرهم، ويجتهد لهم فى الدعاء، وحذر كتاب فقه النوازل، من الدعوات المشبوهة للجماعات المتطرفة من الدعوة لذلك فى وقت بعينه، لأنها تريد المتاجرة بالدين وتوظيفه لأغراض الجماعة الإرهابية المتطرفة.
رمضان فى زمن الكورونا
وحول كيفية قضاء شهر رمضان فى زمن كورونا، قال مؤلفوا الكتاب: "شهر رمضان شهر خير ويمن وبركة ولن ينقطع فضل الله (عز وجل) فيه عن عباده إلى يوم القيامة، وفريضة الصيام قائمة على غير المصابين بكورونا وأصحاب الأعذار، بناءً على الرأى الطبي: أنه لا تأثير لفيروس كورونا على الصيام لغير المصابين وأصحاب الأعذار المرضية، وأن الصيام لا أثر له على الإطلاق فى انتشار فيروس كورونا، وأنه لا مشكلة فى صيام الأصحاء، إنما يكون الإفطار للمصابين بالفيروس وأصحاب الأعذار المرضية الذين يوصيهم الأطباء بالإفطار .
ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وقيام الليل قائم والأصل فيه أن يؤديه الإنسان فى بيته , وفى الصحيحين أَنَّ نبينا (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِى الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنْ الْقَابِلَةِ، فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ الله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: " قَدْ رَأَيْتُ الَّذِى صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِى مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ" وفرصة أن ننير بيوتنا بقيام الليل.
الحجر الصحى والعزل المنزلي
وأكد كتاب فقه النوازل أن الشريعة الإسلامية أقرت الحجر الصحى أو العزل المنزلى منعًا لانتشار الأمراض، حيث راعت فى ذلك مصلحة الفرد، والمجتمع، وهذا ما أكد عليه نبينا (صلى الله عليه وسلم) بقوله: "لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ" وفى الحديث إشارة لمداواة المريض ووقاية الصحيح، وحتى لا يكون المريض سببًا فى إلحاق الضـرر بالآخرين فى المجتمع، لافتا إلى أول من أسس الصحى وللطب الوقائى هو النبى محمد، منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، حيث سبق (صلى الله عليه وسلم)، حيث يقول (صلى الله عليه وسلم) :" إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ "، وفى ذلك تحذير واضح من النبى (صلى الله عليه وسلم) للناس من الدخول إلى البلدة المصابة بالطاعون أو ما يأخذ حكمه كالوباء، ومنع كذلك أهل تلك البلدة من الخروج منها، ويقول الحق سبحانه: "وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ"، ويقول سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ"، وهذا ما يؤكد مشروعية الحجر الصحى والعزل المنزلي
وفى عهد سيدنا عمر بن الخطاب، روى أنه مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَجْذُومَةٍ وَهِى تَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقَالَ لَهَا:" يَا أَمَةَ الله، لَا تُؤْذِى النَّاسَ لَوْ جَلَسْتِ فِى بَيْتِكِ"، فَجَلَسَتْ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ الَّذِى كَانَ قَدْ نَهَاكِ قَدْ مَاتَ فَاخْرُجِي، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُطِيعَهُ حَيًّا وَأَعْصِيَهُ مَيِّتًا"، وعليه فلولى الأمر هنا أن يفرض على المصابين دخول الحجر الصحى أو العزل المنزلى عند امتناعهم أو هروبهم ، لأن فى ذلك مفسدة ومضرة للآخرين الأصحاء.
ويعد الحجر الصحى والعزل المنزلى ضربًا من ضروب الأخذ بالأسباب، ومن ثمة فقد يهرب بعض المصابين بمرضٍ معدٍ أو وباءٍ وهو لا يعبأ بغيره، ولا يفكر فيما قد يصيب به الآخرين من عدوى فتعم البلوى على الجميع وحينئذ نفقد السيطرة .
لذا غلظ الإسلام عقوبة الهاربين من الوباء سواءً أكان الهروب داخل الوطن أم خارجه، تقليلًا من انتشار الوباء، وحفاظًا على الأنفس من الهلاك، وقد ذكر النبى (صلى الله عليه وسلم) أن المقيم بالبلد التى بها الطاعون صابرًا محتسبًا كالشهيد، أي: له أجر شهيد.
كما حذر الكتاب من المتاجرة بالأزمات، واستغلال عقول المجتمع وتوجيهها ، من خلال ترويج الشائعات وبث الأكاذيب، قائلاً: "تعتبر مواقع التواصل الاجتماعى والسوشيال ميديا بيئة خصبة لنشرالشائعات وترويجها، والتى قد تحدث بقصد أو بدون قصد".
وأفرد الكتاب بابا حول بعض أحكام الصلاة المتعلقة بالمريض والطبيب فى زمن الأوبئة العامة ، حيث أكد أن الأصل فى صلاة المريض حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِى الله عَنْهُ، قَالَ: كَانَتْ بِى بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِى (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَنِ الصَّلاَةِ، فَقَالَ: "صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ"، كما ذهب الإمامان مالك وأحمد وجماعة من الشافعية إلى جواز الجمع بين الصلوات بعلة المرض.
وأكد الكتاب أن الفقهاء اتفقوا على أن المرض عذر يبيح التخلف عن الجماعة، وقد روى ابن عباس، أن النبى قال: "مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِى فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ اتِّبَاعِهِ، عُذْرٌ"، قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟، قَالَ: "خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِى صَلَّى، وقد "كان بلال يؤذن بالصلاة ثم يأتى النبى (صلى الله عليه وسلم ) وهو مريض فيقول: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ
وإذا كان المرض عذرًا شرعيا لترك الجمع والجماعات ، فتركها للحفاط على أرواح الناس خشية انتقال العدوى بسبب فيرس كورونا القاتل أولى، خاصة وأن انتقاله بين الناس يسهل فى التجمعات والازدحام ، وفى ذلك إلقاء بالنفس إلى التهلكة.