حالة من الجدل أثارها الإعلام الأمريكي في الأيام الماضية، بعد ما نشر في العديد من المنصات الإعلامية البارزة، من تقارير حول زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، والتي تراوحت بين وفاته، وتدهور حالته الصحية، إلى الحد الذى يعوقه عن ممارسة سلطاته في المستقبل، وبالتالي تصبح عودته إلى موقعه أقرب إلى "معجزة"، ليصل الأمر إلى قيام بعض الوكالات العالمية البارزة ببث جنازة والد الزعيم الحالي، والتي يرجع تاريخها إلى عام 2011، والترويج على أنها جنازة كيم، في سقطة تتوالى بعدها السقطات، بين شائعات دارت حول استيلاء شقيق الزعيم على السلطة، وأخرى حول مستقبل شقيقته، والتي تعد الأقرب إلى عرش الدولة "المارقة"، نظرا لمكانتها الكبيرة سواء في قلب الزعيم أو في حزب العمال الحاكم، حيث أنها تبقى الشخصية الثانية من حيث الأهمية داخله.
إلا أن "المعجزة" تحققت، وعاد الزعيم منتصرا على "الموت" المزعوم، بعد ظهوره، مؤخرا، أثناء افتتاح مصنعا للأسمدة، بعد أسابيع من الغياب، لم يظهر فيها كيم خلال مناسبات لها مكانة كبيرة في بيونج يانج، وعلى رأسها ذكرى ميلاد جده، كيم إيل سونج، والذى يعد أول حاكم لكوريا الشمالية، بعد انقسام شبه الجزيرة الكورية في أواخر الأربعينات من القرن الماضى، والذى ينظر إليه باعتاره "الأب المؤسس" للدولة، التي عانت من العزلة والحصار لعقود طويلة من الزمن، لتصبح رحلة كيم المزعومة "من الموت إلى الحياة" فرصة جديدة للزعيم لتعزيز قبضته على السلطة في البلاد، بينما أصبحت "لعنة" جديدة تلاحق مصداقية الإعلام الغربى، وبالأخص في الولايات المتحدة، في ظل صراع كبير في السنوات الماضية بين المنصات الإعلامية الرئيسية في واشنطن، والرئيس دونالد ترامب، والذى ناصبته العداء منذ صعوده إلى البيت الأبيض في يناير 2017.
أسطورة "كيم".. عودة الزعيم للحياة انتصارا مهما لترامب
ولعل كيم جونج أون ليس الفائز الوحيد جراء "الأسطورة" التي نسج الإعلام الأمريكي خيوطها خلال أسابيع، وصلت إلى حد تزييف الوقائع، عبر نشر جنازة والده، على مواقع التواصل الاجتماعى، على أنها جنازته، ولكن هناك طرف أخر يبدو منتصرا وراء تلك "الأكذوبة"، وهو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذى ينتظره صراعا مريرا، لا يقتصر في نطاقه على المنافسة الانتخابية مع خصمه الديمقراطى جو بايدن، خلال الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر المقبل، وإنما يمتد إلى المنصات الإعلامية التي أثبتت في السنوات الماضية انحيازها الفج لصالح خصوم الرئيس، خاصة فيما يتعلق بالتأييد المطلق لمنصات بعينها لحملات الديمقراطيين سواء لعزل ترامب أو تشويهه.
الرئيس الأمريكي بدا حريصا منذ اليوم الأول لولايته، على إبراز أكاذيب الأعلام، عبر خطاب المواطن مباشرة من خلال حسابه على موقع "تويتر"، حيث دائما ما كان يصف ما تبثه المنصات المعادية له بـ"الأخبار المفبركة"، في إشارة صريحة لاستهدافه لصالح خصومه الديمقراطيين، وهو الأمر الذى يعود إلى ما قبل وصوله إلى البيت الأبيض، وتحديدا منذ حملته الانتخابية، حيث تبنت موقفا واضحا منحازا لصالح منافسته آنذاك هيلارى كلينتون، وهو ما بدا واضحا في استطلاعات الرأي التي نشرتها قبل المعترك الانتخابى في 2016، والتي جاءت نتيجتها بالكامل لصالح المرشحة الديمقراطية، في محاولة للتأثير على أصوات الناخبين، ولكن دون جدوى، حيث حقق ترامب في النهاية انتصارا تاريخيا وغير متوقع على منافسته، رغم ما لها من باع سياسى طويل في الساحة السياسية الأمريكية.
نظرية "الأخبار المفبركة".. ترامب يقوض مصداقية إعلامه
وهنا يمكننا القول بأن "معجزة" كيم تمثل نقطة إضافية مهمة للرئيس ترامب، حيث أنها قدمت دليلا دامغا على أكاذيب الإعلام المناوئ له، بينما جاء توقيتها مثاليا، قبل شهور معدودة من الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، والتي يرى كافة الخبراء والمحللين السياسيين بأنها ستكون الأكثر شراسة في تاريخ واشنطن، بسبب العديد من الإرهاصات التي شهدتها ولاية ترامب الأولى، أبرزت قدرا غير مسبوق من العداء والانقسام، ليس فقط على مستوى الحياة السياسية بين الحزبين الرئيسيين، وإنما امتدت إلى داخل الحزب الواحد، وهو ما يبدو واضحا في الحالة الراهنة التي يشهدها الحزب الديمقراطى، في ظل حالة الاستقطاب التي شهدتها الجولة التمهيدية، بين أنصار بايدن، والذى حسم الأمور في نهاية المطاف، ومؤيدى ساندرز، الذى يحظى بقاعدة كبيرة من الشباب الثائر على القيادات التقليدية للحزب.
ففي تصريح مثير للجدل الأسبوع الماضى، قال ترامب إنه يعلم الوضع الصحى لكيم، ولكنه رفض الحديث تماما، وهو التصريح الذى يمثل انعكاسا صريحا لرغبه الرئيس الأمريكي في توريط المنصات الإعلامية فى التمادى في أكذوبة "وفاة كيم"، لتكون بمثابة شاهدا مهما على نظرية "الأخبار المفبركة"، والتي سعى مرارا وتكرارا إلى إرسائها في السنوات الماضية، ردا على الشائعات التي طالت إدارته منذ اعتلاءه سدة البيت الأبيض.
صفقة محتملة.. معجزة كيم مقابل تقويض الإعلام المناوئ لترامب
وهنا تلوح في الأفق صفقة محتملة بين ترامب وكيم، ولدت من رحم الأكاذيب الإعلامية، حيث تبقى "عودة الزعيم إلى الحياة"، وظهوره مؤخرا انتصارا على خصومه الذين روجوا لشائعة وفاته، بالإضافة إلى إمكانية استخدامها في المستقبل، للحفاظ على هالته القدسية أمام مواطنيه، خاصة بعد انقضاء القضية التي طالما روج لها زعماء بيونج يانج، والتي قامت على دورهم في الدفاع عن "العرق المقدس" في مواجهة الخصوم الدوليين، بعد الانفتاح الجزئى الذى حققته "الدولة المارقة"، في ضوء المصالحة مع جارتها الجنوبية من جانب، بالإضافة إلى التطورات الكبيرة التي شهدتها العلاقة مع الولايات المتحدة، والتي سطرتها القمم المتلاحقة بين الزعيمين، بدءً من سنغافورة، مرورا بفيتنام، وحتى القمة الأخيرة التي شهدت عبور الرئيس الأمريكي، بصحبة نظيرة الكوري الشمالى، للحدود بين الكوريتين على هامش زيارته لكوريا الجنوبية، في لافتة تاريخية، على اعتبار أن ترامب أول رئيس أمريكى يدخل أراضى بيونج يانج، في انعكاس صريح لانطلاق حقبة جديدة من العلاقات بين البلدين.
عودة كيم إلى المشهد بمثابة فرصة جديدة، لعودة المفاوضات بين البلدين التي تبدو متعثرة بين الحين والأخر على خلفية الخلافات حول استمرار العقوبات الأمريكية، إلى مسارها الطبيعى، في المستقبل القريب، في ظل حاجة ترامب إلى انتصار دبلوماسي يكون داعم له فى المعترك الرئاسي المقبل، خاصة وأن مسألة كوريا الشمالية تعد أحد الاختراقات المهمة التي حققتها الإدارة الحالية.