سرت شائعة فى القاهرة بأن السلطان العثمانى سليم الأول قرر أن يأخذ عددا من المصريين المهرة إلى استانبول، كانت الشائعة يوم الأربعاء 17 إبريل 1517، حسبما يذكر الكاتب الصحفى حلمى النمنم فى كتابه «جذور الإرهاب، أيام سليم الأول فى مصر»، وجات بعد إعدام السلطان المملوكى طومان باى على باب زويلة يوم 13 إبريل 1517.
يؤكد «النمنم» أنه لم يطل الانتظار بالأهالى، فلم يكد يأتى يوم الجمعة حتى ثبت أنها صحيحة تماما، وفى صباح هذا اليوم اجتمع عدد من كبار رجال «ابن عثمان» ووزراؤه فى المدرسة الغورية التى بناها قانصوه الغورى، لتحديد المسافرين، وأخذوا فى استدعاء المطلوبين، وكانوا من صفوة المجتمع وهم «أعيان الناس من القضاة والشهود والمباشرين والتجار، وأعيان تجار المغاربة وتجار الوراقين وتجار الشرب والباسطية وجماعة من البرددارية والرسل».
يذكر «النمنم» أنه تم تحديد الذين سيرحلون إلى استانبول، وتم استدعاؤهم إلى المدرسة الغورية، حيث أُعلموا بالأمر، ولم يطلق العثمانيون سراحهم ليعودوا إلى بيوتهم وأعمالهم ثانية، بل ألزموا كل واحد منهم بأن يحضر له ضامن يضمنه، فلما أحضروا لهم بضمان، أطلقوا سراحهم إلى حال سبيلهم، وهذا يعنى أنه لم يكن هناك مجال للاختيار أو الاعتراض على طلب السفر».
بعد ثلاثة أسابيع، وبالتحديد يوم الجمعة 10 مايو، مثل هذا اليوم، عام 1517 بدأت عمليات الترحيل، وفقا لتأكيد «النمنم» مضيفا: «كان أول الراحلين جماعة من اليهود، خرجوا إلى ميناء بولاق، وتوجهوا من هناك إلى ميناء الإسكندرية لم يخرجوا فرادى بل أخذوا نساءهم وأولادهم ومضوا».
لم يكن اليهود وحدهم ضمن الفوج الأول فى الترحيل، وإنما شمل مسلمين ونصارى من البنائين والنجارين والحدادين والمرخمين والمبلطين، ومر هذا اليوم بهدوء لكن الأحزان والآلام كانت لدى الجميع لإخراجهم من بلادهم إلى بلد آخر لا يعرفون مصيرهم فيه، وفى اليوم التالى الذى كان سيرحل فيه فوج آخر من القاهرة إلى الإسكندرية، ومن ضمنه قضاة، حدث ما يؤكد أحزان المصريين من قرار «سليم الأول» ففى اللحظة الأخيرة اعترض اثنان من القضاة على السفر كل بطريقته، كان أحدهما شافعيا، والثانى حنفيا.
يذكر «النمنم»: «كان القاضى الشافعى اسمه «شمس الدين الحلبى» أراد ألا يسافر فأعلن ذلك صراحة، لكن تم حمله عنوة من بيته إلى بولاق حيث السفينة التى ستقله إلى الإسكندرية، لكن العثمانيين أوسعوه ضربا، وأنزلوه المركب رغم أنفه، وكان ذلك بمثابة تأديب عنيف له».
أما القاضى الثانى «الحنفى» هو «بدر الدين ابن الوقاد» فاختار طريقا آخر وأسلوبا مختلفا فى الاعتراض، حيث اختفى تماما عن الأنظار، وبحث عنه العثمانيون فى كل مكان وفشلوا فى الوصول إليه والإمساك به، وربما يكون هذا الرجل خرج من القاهرة كلها إلى أى مكان آخر فى مصر، أو بقى فيها لكنه عاش باسم مستعار مع تغيير فى هيئته.
واغتاظ العثمانيون من هروبه فقرروا معاقبة الضامن له، وكان يدعى «يونس» ويعمل «نقيب الجيش» وينقل «النمنم» عن «ابن زنبل» أحد أبرز مؤرخى هذه المرحلة: «حصل نقيب الجيش من الدفتردار ما لا خير فيه وبهدلة، وهم بضربه»، وبالطبع كان هذا العقاب دافعا إلى أن يكون الضامنون وسيلة رقابة صارمة على من يضمنونهم.
يذكر «النمنم» أن عدد الذين تم إخراجهم من مصر قدروا بـ«1800»، وفى تقديرات أخرى بعدة آلاف، وكان عدد سكان القاهرة قرابة 250 ألفا، وبخروج هذا العدد انهارت الصناعات والحرف فى مصر، بالإضافة إلى أن هناك خمسين صنعة تعطلت وبطلت أثناء وجود سليم الأول فى مصر.
فى دراما هذه القصة هناك روايات يذكرها مؤرخو هذه المرحلة، منها أن إحدى السفن التى كانت تقل المصريين غرقت بعد سفرها من الإسكندرية ولم ينج منها أحد من ركابها، وغرق نحو 400 منهم جماعة من الأعيان، وهناك رواية عن أنه بعد عام حضر شخص عثمانى إلى القاهرة خطابات من المرحلين إلى أهاليهم كلها لوعة وأسى وقالوا إن الكثير منهم توفوا فى استانبول، وفى كل الأحوال أدى هذا القرار إلى تأخر مصر كثيرا.