في صيف عام 2009 ذهبت إلى لبنان مدعوا لحضور فعاليات مهرجان بعلبك للموسيقى والفنون، وفي الحقيقة كان لي هدف آخر من هذه الزيارة المحببة بجانب حضور فعليات هذا المهرجان الكبير العريق، وهذا الهدف كان محددا منذ البداية، ألا وهو مقابلة وديع الصافي.
نعم كان وديع الصافي بالنسبة لي هو "لبنان" بل لبنان الجميلة إن شئت الدقة، لبنان الحقيقية، لبنان الفتية الفاتنة، ومنذ اليوم الأول لوصولي لبنان سألت الجميع عن كيفية الوصول إلى جبل لبنان الأجمل، وكانت الردود تترواح ما بين "صعبا وإن كان غير مستحيلا" و"كان غيرك أشطر" لكني لم أفقد حماسي ولو للحظة في الوصول إليه حتى استطعت الحصول على رقم ابنه الفنان "أنطوان" الذي ما أن اتصلت به وعرف من لهجتي أنني مصري حتى هلل مرحبا وكأننا "عشرة عمر" مرددا "عظيمة يا مصر"
كانت "مصر" هي جواز المرور إلى قلب "أنطوان" وبالتأكيد فقد عرف مقدار لهفتي لرؤية والده الكبير من لهجتي في الحديث، فقلت له أني لم أترك القاهرة وآتي إلى لبنان إلا من أجل مقابلة جبل لبنان "وديع الصافي" وأني أبحث عن أية طريقة للوصول إليه منذ أسبوع تقريبا، وأني سأسافر بعد غد ولذلك أرجو أن تكون المقابلة في اليوم أو الغد على أبعد تقدير، فأكد لي أن اليوم مستحيل، ووعدني وأن علي أن أتصل به في الغد ليرى إن كانت الزيارة ممكنة أم لا.
اتصلت في الغد وكلي أمل أن تسمح ظروف الفنان الكبير بأن يقابلني، لكن للأسف كان "الوالد مجهد في هذا اليوم لأن الكثير من الضيوف حلو عليه فجأة..وإن كان ممكنا سيكون في استقبالك في الغد الساعة الثالثة عصرا" هكذا قال لي أنطوان ضاربا بكل آمالي عرض الحائط، ووضعا إياي ما بين خيارين أحلاهما مر، أن أفوت ميعاد الطائرة في التاسعة صباحا، أو أن أضيع على نفسي فرصة بقاء ويع الصافي الذي أحلم برؤيته منذ أن وعيت على الفن والطرب والأصالة والشجن، فاخترت الأولى، وبالفعل أضعت ميعاد الطائرة وأكدت لأنطوان أنني سأكون في الميعاد، ولكي أقطع على نفسي خط الرجعة لم أتصل بشركة الطيران لأعرف إن كانت هناك رحلة أخرى في القريب أم لا خوفا من أن تخبرني الشركة بعدم وجود رحلات قريبة فأتزعزع عن موقفي.
كان عنوانه حسبما أتذكر في المنصورية ببيروت، مكان جميل على تلال مرتفعة، أوقفت أول تاكسي قابلته وكان "تاكسى" متهالكًا، في الطريق لمحت لافته تقول إن المنصورية في على الشمال ودهشت من أن السائق لم يتخذ هذا الاتجاه، وسار إلى الأمام، قلت في عقلي هكذا هم سائقوا التاكسي سواء في مصر أو في غيرها ما أن يدركوا أن "الزبون" غريب حتى يلفوا به ويدوروا لمضاعفة الأجرة، قلت للسائق المنصورية شمال، فقال لي لا طوالي ثم شمال، انفعلت وقلت له اللافتة تقول شمال، قال لي لا إلى الأمام بعدين شمال، فقلت له "لأ شمال" قال لي يا أخي إذا ما دخلنا من هذا الاتجاه سنجد أنفسنا في سوريا، فصدمت من قرب سوريا فصمت، ولأني كنت متلهفًا لرؤية "الصافى" طلبت من السائق أن يسرع قليلاً، لكنه لم يأبه، وقبل الصعود إلى بيته الذى يقع بأعلى ربوة مرتفعة اعتذر السائق عن استكمال المشوار لأن سيارته لا تحتمل، كان السائق متجهمًا ومتأففًا فى يوم "شوب" أى شديد الحر، فشعرت به كما لو كان نغمة نشاز فى يوم جميل، وحمدت الله على اعتذاره وتركته غير مأسوف عليه.
"جون" هو اسم السائق الذى وقف لى على مشارف المنصورية ورحب بى لأنى مصرى، قال باللهجة المصرية "المكسرة" أنا بحب المصريين عشان عندهم كرامة، وبحب أصاحب المصريين، وده تليفونى إذا بدك نكون أصدقاء، كانت سيارة جون حديثة ومكيفة، ولم يتركنى إلا على باب الصافى، فتخيلت أن حى وديع الصافى لا يقبل بالمتأففين المتململين أصحاب الروح النافرة، ولا يسمح بالدخول إلى منطقة نفوذه إلى الطيبين البشوشين، فاعتبرتها "بشرة خير" وفألا حسنا.
كان وديع الصافي مثلما حلمت به "صافيا" عذبا مليحا، بسيط كالابتسامة، صادق كالمياه الرائقة، سمح كالسماء، صلب كالجبال، معطاء كالأرض الطيبة، ما أن تراه حتى تشعر كأنك أمام المادة الخام للإنسانية فى رحابتها وسماحتها وحنوها وضعفها وقوتها ومكرها، صعدت إلى الدور الرابع كما قالي لي ابنه أنطون وقد دلني على شقته صوت الكمان المنبعث من خلف الشقة فاستقبلني "وديع الصافي" بشحمه ولحمه، بروحه الوثابة وابتسامته المضيافة، ثم أدخلنى إلى البلكون لأبدأ الحوار.
ها أنا أجلس مع وديع الصافي، "يا دي النعيم اللي أنت فيه يا قلبي" كما قال عبد الوهاب الذي وصف صوت الصافي بأنه "غير بشرى" وللمرة الثانية رأيت مصر في عينه وهو يقول مفتخرا ""أنا مصرى بشهادة الدولة وشهادة حبيبى شعب مصر، فأنا أسرع إنسان حصل على الجنسية المصرية، فى خمس دقايق كنت أحمل جواز السفر المصرى، فحينما قابلت الرئيس مبارك قلت له يا سيادة الرئيس هل يجوز وأنا الذى غنيت «عظيمة يا مصر» أن أقف لأحصل على تأشيرة دخول إلى بلدى؟ فقال: لا طبعاً لا يجوز يا أستاذ وديع، دى الأغنية دى صارت النشيد الشعبى، وأمر سيادته بمنحى الجنسية المصرية التى أفتخر بها وأضعها وساماً على صدرى.
امتدت الجلسة طويلا، ولا أخفي عليك أنني أجد في فمي حلاوتها كلما تذكرتها أو كتبت عنها فقد استقبلني "الصافي" بكل ود وإخاء وحفاوة، قائلا "كنت أمشى في مصر كأنها بلدى حتى قبل أن أحصل على الجنسية المصرية، وبرغم أنى مسيحى لكننى لم أشعر أبداً بأن شعب مصر يختلف عنى، وكنت قديما أدخل إلى المساجد المصرية وأصلى مع صديقى الفنان حسن حامولى، الذى كان فى كل فترة يقول لى: ما تيجى نخش الجامع نصلى إيه رأيك، فأقول له وماله يلا نصلى، وكان هو أيضاً يدخل معى إلى الكنيسة ويصلى، وبدأ هذا الموضوع فى بادئ الأمر مزحة لكنى كنت أستشعر بجو جميل من الرهبة والخشوع فى المساجد المصرية.
تحدثنا في كل شيء، حدثني عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وقال إنه "مات بحسرته حينما لم رأى أن رؤساء الدول العربية لم يتجاوبوا معه، وامتلأوا منه بالغيرة، بعد أن صار عملاقا ومعبودا فى كل الأوطان العربية وحدثني عن إسرائيل قائلا إنها "المحرض الأول على انتشار روح التعصب الدينى هو إسرائيل، لغرض خبيث فى نفسها، لأنها هى المستفيد الأول من تحزيبنا وتفتيتنا وتشتيتنا، لنصبح شراذم متصارعة يسهل الفتك بها مثلما يحدث الآن فى فلسطين، وحدثني عن كارهي مصر قائلا " أعوذ بالله من هذا الكلام، وبلا مزايدة على أحد أقول بملء فمى «عظيمة يا مصر» رغم أنف الكارهين، ومصر دائماً هى القمة، وهى الثابتة والكل يتغير، سواء فى السياسة وفى الفكر وفى السياسة، وحدثني عن الوحدة العربية قائلا إنها مازالت حلما جميلا يتمناه وإنها ضرورة وليست ترفا، وإنها هى الضمانة الوحيدة لبقاء هذه الأمة.
امتد الحديث كثيرا في الفن والحب والسياسة، وحينما غادرت بيته شعرت أني كنت محقا حينما قررت أن أضيع ميعاد الطائرة المتجهة إلى مصر، لكني صحوت من نشوة هذا الحوار، حينما اكتشفت بعدها أنني وضعت غلى قائمة الانتظار لأكثر من أسبوع لأن كل الرحلات المتجهة إلى مصر كانت محجوزة، وبقيت عالقا في بيروت بلا أموال تذكر وبلا أمل قريب في العودة حتى أوشكت على الانهيار، ولولا تدخل أحد معارفي وتوسطه لدى شركة الطيران لتقديم ميعاد الرحلة لانهرت بالفعل، لكني برغم كل هذا لو وضعت في ذات الاختيار لاخترت مقابلة وديع الصافي.