ضرب المفتاح فى باب عنبر السجن فى السابعة صباح يوم 11 مايو، مثل هذا اليوم، عام 1962، وصاح العسكرى: «انتباه، انتباه»، فتصور المسجون أحمد فؤاد نجم أنه تفتيش، لكنه سمع: «انتبااااااه كبير قوى»، حسبما يذكر فى سيرته الذاتية الكاملة «الفاجومى»، مضيفا: «بدأ كل مسجون يخبى الممنوعات اللى عنده، وكانت المفاجأة الأكبر أن المفتاح بقى فى أوضتنا».
يتذكر «نجم»: «نادى العسكرى: انتباه، وقفنا بسرعة وإذا باللواء إبراهيم عزت نفسه ووراءه الرائد سمير قلادة، واتجهوا ناحيتى، وقال لى اللواء إبراهيم عزت: مبروك، قلت له: الله يبارك فيك يا فندم، قال لى: إنت عارف؟ قلت له: أيوه.. ما أنا إفراج، قال لى: أنا ما بتكلمش على الإفراج، إنت قريت الأهرام بتاع النهارده؟ وقدم لى ملحق أهرام الجمعة ولقيته معلم على خبر فى الصفحة الأدبية: «قررت لجنة الشعر بمجلس الفنون نشر ديوان (صور من الحياة والسجن ) للشاعر أحمد فؤاد نجم، بعد فوزه فى مسابقة مشروع الكتاب الأول».. يؤكد نجم: «بعد كده أنا ما شفتش حاجة لكن سمعت صوت سمير قلاده بيقول لى: «أنت دلوقتى حطيت رجلك على بر الأمان».
كان عقوبة «نجم» التى انتهت هى، ثلاث سنوات سجنا بتهمة الاشتراك مع زميل له، فى تزوير استمارات حكومية بأسماء وهمية، ليحصلا بمقتضاها على بضائع يبيعانها ويحصلان على ثمنها، وفقا لصلاح عيسى فى كتابه «شاعر تكدير الأمن العام»، وخرج «نجم» شاعرا وعمره 33 عاما، وذلك بعد عام واحد من بدء كتابته للشعر أثناء تأديته للعقوبة، ويقول عيسى: «تعرف على ثلاثة من الكتاب الشيوعيين كانوا محبوسين فى السجن نفسه، على ذمة إحدى القضايا الشيوعية هم الروائى عبدالحكيم قاسم، والناقد سامى خشبة، والكاتب الصحفى حسين شعلان، فتأثر بهم، واستمع منهم إلى ما يحفظونه من شعر «فؤاد حداد» الذى كان معتقلا هو الآخر بمعتقل الواحات».
يتذكر «نجم»: «حكى لى عبدالحكيم قاسم عن المشاكل اللى ترتبت على اعتقاله بالنسبة لأسرته ،خصوصا وإن أبوه كان شيخ مسن.. والحقيقة إن الطريقة اللى حكى لى بيها استفزتنى فسألته :وإنت إزاى تسبب لأهلك اللى ربوك وعلموك كل المشاكل دى؟.. ضحك وقال لى: هو أنا اعتقلت نفسى؟قلت له: قلبك ما بياكلكش على أبوك وأمك وأختك؟، قال لى: أنا قلبى بياكلنى على مصر كلها، ويوم ما تتحل مشاكل مصر.. حتتحل معها مشكلة أبويا وأمى وأختى، ليلتها أنا ما نمتش.. إيه الكلام العجيب ده، وإيه الناس دول؟
يواصل «نجم»: «بعد كده كنت بازورهم كل يوم وأسمع كلامهم ومناقشاتهم وأهم من كده كانوا يسمعونى قصايد شاعرهم العظيم فؤاد حداد، ولو إن الكم اللى كانوا حافظينه من أشعاره كان قليل جدا، إلا إنه دخل قلبى وأيامها كنت باكتب قصايد ديوانى الأول «صور من الحياة والسجن»، فاعتقدت إنى بأساهم فى نشر أشعار فؤاد حداد الممنوعة، فأخذت مقاطع منها على قد ما أسعفتنى الذاكرة وأضفتها لأشعارى.. ما كنتش أعرف إنى شخصيا حابقى الشاعر الممنوع فى كل الأقطار والأزمان العربية، وده كان اللقاء التانى بينى وبين الشيوعيين المصريين».
فى السنة الأخيرة فى السجن جاء اكتشاف «نجم» شاعرا.
يتذكر نجم: «من حسن حظى أن يكون اللواء إبراهيم عزت فى هذه الفترة هو مدير سجن «أرميدان» والرائد سليمان قلادة هو المأمور، والاتنين دول هما اللى احتضنونى وشجعونى وكانوا بيعملوا لى ندوات شعرية فى مسرح السجن وينشروا لى شعرى فى مجلة السجن اللى فزت بجايزتها فى مسابقة عيد الأم بقصيدة «بحر الحنان»، وكانت الجايزة جنيه، وحرضنى الرائد سمير قلاده على دخول مسابقة الكتاب الأول، وجاب لى الورق على حسابه ونسخ لى القصايد على المكنة، وبعتها بمعرفته إلى مجلس الفنون والآداب الاجتماعية».
يضيف: «كان الرائد سمير قلادة شديد الشبه بالرئيس جمال عبدالناصر، ولذلك لما كتبت له الإهداء فى مقدمة ديوان المسابقة «صور من الحياة والسجن» كتبت: «فنان وتعطف ع الفنان/ ولك أيادى ومآثر/ ولك حكاية فى كل مكان/ ياصورة من عبد الناصر».