نقلاً من اليومى..
حين تمر على الطريق السياحى الممهد الذى يفصلك عن قرية شكشوك بمحافظة الفيوم، وقبل الدخول للقرية، التى تبدأ حدودها مع انتهاء هذه الطرق الممهدة، تشعر وكأن طيف الحضارة مر من هنا، ولكنك سرعان ما تشعر بالصدمة، حين تطأ قدمك أرض القرية الفقيرة، وتتحدث مع أهلها، لتدرك كيف يئن أهلها تحت وطأة الفقر والإهمال الممنهج.
هذا المكان الذى يقع فى منطقة وسطى بين الحياة والموت، ليست معدمة نهائيًا، لكنها غارقة فى مشاكل تجعلها ثابتة فى مكانها، لدرجة الشلل التام، وأحيانا غاضبة لحد الانفجار، جراء توالى النكبات عليها، دون أن يُحرك المسؤولون ساكنًا.
فى قرية شكشكوك التى تقع بمركز أبشواى بمحافظة الفيوم تتعالى شكاوى الأهالى من البطالة، بعد أن أغلقت مصادر الرزق أبوابها سواء فى مهنة الصيد التى ورثوها عن الآباء والأجداد، أو فى مهنة الزراعة بعد تلف الأراضى الزراعية وإنهاكها بالعديد من الأزمات التى أعدمت خصوبتها، ناهيك عن سوء أحوال المرافق من انقطاع دائم للمياه والكهرباء، إضافة إلى لغز عدم تشغيل شبكة الصرف الصحى، رغم تركيبها منذ سنوات، وذلك بخلاف الكوارث البيئية التى تهدد حياة وصحة الأهالى بسبب مخلفات إحدى شركات الملاحات.
فى السطور التالية ترصد «انفراد» أزمات قرية شكشوك التى تعيش حياة تحت مظلة الموت.
أوجاع أبناء شكشوك
طريق سياحى فاخر يصطف على جانبيه عدد من الكافتيريات يفصلك عن الدخول لقرية شكشوك، التى تبدأ حدودها مع انتهاء الطرق الممهدة، ومثل أى قرية أو مدينة مصرية يتجمع أغلب رجالها على «قهوة بلدى» تتواجد فى مدخلها، لكن السمة الواضحة ارتفاع معدل الأعمار السنية، فأغلب الرجال فوق سن الـ 50، فى ظل تواجد نادر للشباب.
على القهوة يجلس كمال مفتاح صالح 53 عاما، الذى يعمل صيادا، ويحدثنا عن أوضاع القرية، قائلا: «احنا هنا تقريبا ولا عايشين ولا ميتين، حياة مملة كده ممكن متعرفش توصفها.. عندنا مشاكل فى المرافق، فالصرف مواسيره متركبة من 21 سنة، ولكنه لا يعمل حتى الآن، وعندنا مشاكل فى المياه دائمة الانقطاع، وكذلك الكهرباء، وحتى المستشفى مفيش فيها دكاترة، وبطيعة الحال لا يوجد فرص عمل للشباب الذين غادر أغلبهم القرية، بحثًا عن الرزق فى محافظات أخرى».
يُشار إلى أن المياه انقطعت عن القرية لمدة تجاوزت الشهر ونصف، فى الفترة ما بين يوليو وأغسطس العام الماضى، ولا تزال الأزمة مستمرة، لكن على نطاق أضيق يتمثل فى انقطاعها بالأسبوع، ولا تصل إلا ساعات قليلة فى اليوم.
وتابع الصياد، صاحب الـ 53 عامًا حديثه، قائلا: «متوسط الأعمار الناس اللى هتشوفهم فى القرية فوق الـ 50 عاما»، لأن الشباب هربوا بحثا عن الرزق فى مناطق تانية».
مضيفًا: «مشاكل القرية مش بس أبواب الرزق المقفولة، الناس بتخرج منها كمان علشان تتعالج، ورغم إن عندنا مستشفى، لكن مفيش فيها دكاترة، ولمّا بيكونوا موجودين بيحددوا أعداد قليلة للكشف المجانى، ويجبروا باقى الناس إنهم يدفعوا ثمن كشف اقتصادى بـ 23 جنيها وبنضطر نكشف رغم الغلاء، أحسن ما نروح مركز سنورس، ونضطر ندفع 50 جنيها، قيمة الكشف فى العيادات الخاصة، ولو مش مصدقنى روح الوحدة هناك قدامك».
«ماعز» داخل الوحدة الصحية!
وعلى بعد أمتار من القهوة تقع الوحدة الصحية لقرية شكشوك، والتى ذهبنا لزيارتها.
بعد المرور من الأبواب المفتوحة يستقبلك عدد من الماعز الذى يتجول بحرية فى أرجائها، خاصة مع وجود جرار زراعى فى آخر فنائها، بينما يجلس عامل على مقعد يدخن سيجارة أمام غرفتين مفتوحتين، مكتوب على إحداهما، حجرة الكشف للمرضى، وتجلس بداخلها ممرضة وعاملة، ولا وجود للأطباء أو مدير المستشفى!.
العامل الذى يجلس داخل الوحدة، أفاد بأن مدير الوحدة يُفترض حضوره فى الثامنة صباحًا، وإقامته فى الوحدة، لكنه غير متواجد فى الوقت الحالى، خصوصا أنه مقيم فى إبشواى، ولا يعرف سبب غيابه فى الوقت الحالى.
فيما التقطت طرف الحديث إحدى الممرضات، مبررة غياب الطبيب عن الوحدة الصحية بأنه مريض، ويمكن مقابلته بعد يومين، لكنها أشارت إلى أن هناك طبيبا يُدعى «مينا» له عيادة بجوار المسجد القريب من الوحدة، ويُمكن الذهاب إليه، لتؤكد زميلتها أنه كان يعمل فى الوحدة بالعام الماضى، وترك العمل بها حاليًا!
لغز شبكة الصرف
بالنسبة لأزمة شبكة الصرف الصحى فى القرية، كشف عدد من الأهالى أنهم يعيشون على ذلك الحلم منذ عام 1995، حيث تم حفر الأراضى ووضع المواسير، لكن دون تشغيل حتى الآن، وهو ما ترتب عليه ارتفاع معدلات التلوث، وصرف المخلفات فى بحيرة قارون.
عبدالله محمد 35 عامًا «عامل أمن» يروى تفاصيل مشكلة الصرف قائلا: «الخطوط هنا تم حفرها منذ عام 1995 ولم يتم تركيبها بتواطؤ بين أعضاء مجلس الشعب والحكومة قبل ثورة 25 يناير، نظرًا لأن خطوط الصرف الصحى كانت ستضر المزارع السمكية لعدد من رجال الأعمال البارزين، الذين مازالوا يستفيدون منها حتى الآن، والقرية تعيش أوضاعا صعبة، بسبب عدم وجود صرف صحى».
بينما تحدث عن دور النواب المنتخبين عن الدائرة فى انتخابات المجلس الأخيرة، قائلا: «هم 3 نواب قالوا كلام قبل الانتخابات، وبعد النجاح اختفوا ومحدش زار المنطقة تانى، رغم أن عدد البطاقات الانتخابية هنا فوق الـ 13 ألف صوت، لكن للأسف، النواب اهتموا بمناطقهم وأهلها، ولم يهتم أحد بنا».
هموم الصيادين والمزارعين
لم يترك الإهمال الحكومى المتوغل والمتأصل فى قرية شكشكوك مجالا للأمل أمام الأهالى إلا وأغلقه، حتى إن آثار هذا الإهمال امتدت لتقتل الحياة فى أهم مصادر الدخل التى يعتمد عليها المواطنون، وهى بحيرة قارون والأراضى الزراعية، وانطلقت لتطارد شباب القرية وتطردهم خارجها، بحثا عن لقمة العيش.
وامتد الإهمال ليستهزئ، حتى بالمقرات الحكومية فى المحافظة والمحليات، لتتكدس القمامة بجوارها فى مشهد صارخ، يؤكد أن شكاوى المواطنين تذهب أدراج الرياح.
يتحدث الصياد كمال عن أوضاع شباب القرية، قائلا: «على سبيل المثال ابنى مهندس كيميائى عمره 30 عاما، حتى الآن لم يجد وظيفة، واضطر للعمل باليومية فى إحدى الشركات كفرد أمن، لمدة 8 ساعات، مقابل 25 جنيها يوميا».
مضيفًا: «الشباب عندنا بيضطروا للسفر إلى الغردقة وأسوان والإسماعيلة والسويس، وكل شويه عدد منهم يرجع لنا فى صناديق، بسبب الحوادث اللى على الطرق».
ولا ينس أهالى القرية الحوادث الجماعية التى تحدث بين فترة وأخرى لأبنائهم، الباحثين عن الرزق خارج حدودها، ومن هذه الحوادث ذلك اليوم الأليم الذى عاشته قرية شكشوك فى 14 أكتوبر عام 2014، بعدما شيعت جثامين 16 من أبنائها، لقوا حتفهم فى حادثة على طريق أسوان الصحراوى، أثناء سفرهم، من أجل البحث عن فرصة عمل.
وتُمثل مهنتا الصيد والزراعة مصادر الحياة الأساسية، بالنسبة لأبناء شكشوك، لكنها تضيق بسبب الأوضاع التى تسير من سيئ إلى أسوأ، بحسب وصف عدد من أهالى القرية، الذين قادونا إلى أحد بيوت، أعضاء نقابة الصيادين، للتعرف على هموم تلك المهنة وأصحابها.
أوجاع الصيادين
فى الدور الأرضى لمنزل مكون من طابقين، يجلس رزق أنور محمود، عضو نقابة الصيادين «61 عاما» فى الدور الأرضى يغزل الشباك بدقة، ويعتبر ما يقوم به دليل على تردى أحوال الصيادين، وليس على الإتقان، نظرًا لأن هذا النوع من الشباك لا يستخدم فى الصيد إلا فى الأيام العجاف من وجهة نظره.
ويحمل عم رزق أوجاع الصيادين فى بحيرة قارون بشكل عام، وأبناء شكشوك بشكل خاص، قائلا: «احنا دلوقتى مابنقدرش نصطاد غير الجمبرى أبو ليفة الذى يتم بيع الكيلو منه بنصف جنيه»، موضحا: «النوع اللى بكلمك عنه ده، يعتبر تغذية الأسماك أساسا، لكن بعدما غابت الأسماك عن البحيرة لم يتبق للصيادين، سوى اصطياد هذا النوع من الجمبرى وبيعه».
ويرى عضو نقابة الصيادين أن أحوال صيادى بحيرة قارون هى الأسوأ فى مصر على الإطلاق، واصفا حالهم بـ«الموت وخراب الديار».
وقال: «إن نسبة التلوث فى البحيرة هنا تصل إلى 80٪، لعدة أسباب منها إلقاء الكافيتريات والشركات الصناعية والملاحات مخلفاتها فيها»، مضيفا: «رائحة المياه لا تطاق، ونسبة البكتيريا والملوثات تتجاوز كل الحدود، فكيف للسمك العيش فى تلك البيئة، لذا يموت بسرعة، خصوصا إن البحيرة محدودة، وليست جهة مصب، فالبكتيريا تتركز فى القاع لمسافة 2 متر».
وأشار رزق إلى أن الصيادين حاليا لا يجدون مفرًا سوى صيد 20 كيلو من الجمبرى أبو ليفة فى اليوم، ثم ينزلون لبيعها فى الأسواق، مقابل أسعار زهيدة، على أمل توفير أبسط احتياجات بيوتهم، مضيفًا: «هيئة الثروة السمكية تتعامل مع الصيادين على أنهم شىء مهمل لا يستحق النظر، ولا تهتم بأوضاعهم، ولا أوضاع البحيرة، والدليل أنه بعد نفوق الأسماك فى الفترة الأخيرة لم يتم صرف أى تعويضات لمساعدة الصيادين على المعيشة».
ولفت عضو نقابة الصيادين إلى أن البحيرة مسجل بها عدد 605 مراكب للصيد، يعمل على متن كل منها، على الأقل، 9 أفراد، قائلاً: «تخيل 6000 آلاف صياد تقريبا، يجلسون فى بيوتهم حاليا بدون عمل أو مصدر رزق، لافتًا إلى أن أولادهم تشردوا وأصبحوا يسافرون للصيد فى المحافظات الآخرى، مثل أسوان والإسكندرية والسويس وغيرها، ويواجهون المخاطر، وكل فترة نودع عددا منهم، بسبب حوادث الطرق.
وكشف رزق عن أن مطالب الأهالى تتلخص فى ضرورة إنقاذ بحيرة قارون، وتقليل نسبة التلوث، من خلال وضع محطتى تحلية للمياه فى الاتجاهين الشرقى والغربى، وإقامة صرف صحى، ومنع الكافتيريات والمصانع من إلقاء المخلفات فيها، وعلى رأسها شركة الملاحات.
وقال: «مسؤولو الثروة السمكية وعدونا من قبل بإحضار كراكات لإزالة البكتيريا المستوطنة فى البحيرة، ولا نزال فى انتظار قدوهم حتى الآن».
فيما كشف ميزار على ميزار عضو نقابة الصيادين عن أزمة أخرى تقف عائقا أمام الصيادين، وتتمثل فى أن المسؤولين عن بحيرة قارون يتجاهلون مطالبهم، مضيفًا: «على سبيل المثال البحيرة مغلقة منذ 50 يومًا، فماذا فعل المسؤولون تجاه الصيادين الذين ليس لهم تأمين أو معاش».
الأرض عطشانة
مصدر الرزق الثانى المتاح لأبناء القرية هو الزراعة، ولكن الحال والهموم لا تختلف كثيرا عن هموم جيرانهم الصيادين، فالأراضى أنهكت بفعل الغرق، وارتفاع منسوب مياه البحيرة، مما يتسبب فى غرق الأراضى فى أوقات كثيرة، إلى أن تم الاتفاق على إنشاء جدار عازل يفصل القرية عن البحيرة فى 10 أكتوبر عام 2013، لكن المعاناة لا تزال مستمرة، رغم الانتهاء من بناء ذلك الجدار، منذ ثلاثة أشهر.
عبدالفضيل عوض 63 عامًا يعمل مزارعا، ويتحدث عن أحوال الأراضى الزراعية فى القرية، قائلا: «الأرض لم تعد قادرة على إنتاج المحاصيل مثلما كانت فى السابق، بعدما بارت أراض واسعة، بفعل غمر مياه البركة منذ سنوات من ناحية، وبممارسات شركة الملاحات من ناحية أخرى، مشيرًا إلى أن الأرض لا تزال تعانى من تسريب مياه البحيرة إليها، رغم إقامة جدار عازل عن البحيرة، والذى تم الانتهاء منه منذ ثلاثة أشهر، إلا أن المسؤولين أخلفوا وعدهم بوضع أمتار من الحجار، حتى تمنع تسريب المياه نهائيا».
وأشار عوض إلى أن الفلاحين اضطروا لشراء 4 ماكينات شفط على حسابهم الخاص، حيث دفع كل منهم مبلغا يقارب 200 جنيه، للتخلص من المياه، مضيفًا: «الأرض حاليًا لا تنتج سوى القمح أو الذرة، بينما كانت فى وقت سابق تنتج جميع أنواع المحاصيل والفاكهة، ولكنها الآن أصابها الإنهاك بسبب زيادة الملوحة، وقلة مياه الرى، فالمياه المتوافرة هنا تكفى لرى 8 أفدنة، رغم إن المساحة المزروعة 800 فدانا».
بينما كشف مرعى محمد، صاحب أرض زراعية، أن مطالب الفلاحين تتمثل فى حقوقهم فى الحصول على تعويضات من الشركة التى بورت الأرض، وجعلت أبناءهم يضطرون للسفر إلى المحافظات الأخرى، بعدما ضاقت السبل عليهم، مضيفًا: «هناك محافظ وعدنا بعمل محطة لشفط المياه، لكن لم يتحقق شىء، ولا تزال الأرض تعانى، وبطبيعة الحال، فلاحو شكشوك أيضًا».
كارثة بيئية
لا تقتصر هموم أهالى قرية شكشوك على ضعف الخدمات وانعدامها فى القرية، ولكن تضاف إلى همومهم كارثة جديدة يعانون من آثارها على أجسادهم يوميا، حيث أقامت إحدى شركات الملاحات حوضا للمخلفات وسط الكتلة السكينة على مساحة تقترب من 5 أفدنة، تلقى مخلفاتها فيه، ليصبح بؤرة للأمراض ومستنقعا للأوبئة، ورغم حصول الأهالى على عدة أحكام تقضى بردم الحوض، إلا أنه لم يتم تنفيذها، فى ظل غياب تام للمسؤولين.
توبة عبدالهادى أحد سكان البنيات المجاورة للحوض، أوضح أن الروائح والحشرات لا يمكن احتمالها، مؤكدا وجود زواحف وثعابين تخرج منها وتهدد حياة أهل القرية، فضلا عن حوادث سقوط الأطفال فيه، والتى لا تنقطع يوميا، لافتًا إلى أن احتواء هذا الحوض على مواد كيميائية يسبب حروقا للأطفال، ويهدد الصحة.
وأضاف أحد سكان المنطقة: «قدمنا شكاوى لوزارة الصحة والمجلس المحلى والمحافظة وأعضاء مجلس الشعب، وكل الجهات التى تتخيلها، ولا حياة لمن تنادى.. الكل يتجاهلنا وصحتنا ومستقبل أولادنا فى خطر»
مضيفًا: «كل يوم والتانى تيجى قوة من المركز، ويقولوا هنردم الحوض ولا يحدث شىء»، لافتًا إلى أن إقامة دعاوى قضائية ضد الشركة أوقف الصرف فى الحوض، منذ فترة، لكن المخلفات لا تزال موجودة به، ولم يتم ردمه، ليشكل بؤرة موت لأهالى القرية وأطفالها.