جهزت نفسي للذهاب إلى وزير خارجية مصر الأسبق إسماعيل فهمي وفقا لموعد مسبق، لكن استغاثة مفاجئة من الطبيب الصديق الدكتور سمير عبد الحكيم ابن مدينة أجا بمحافظة الدقهلية ،أعادت رسم خريطة هذا اليوم، وأوقعتني في مشكلة كبيرة مع الوزير الذي استقال احتجاجا علي سفر السادات إلي "إسرائيل " يوم 19 نوفمبر عام 1977.
كنت في عام 1987، وأعمل في مكتب "صاعد للخدمات الصحفية".. كان "صاعد" متعدد الأنشطة، ويراسل صحفا عربية معظمها يصدر في عواصم أوربية، وكان معروفا بأنه ناصري التوجه، وكان سمير عبد الحكيم "ناصري" يرتبط بعلاقات قديمة مع معظم العاملين في "صاعد".
كنت أنتظر زميلي المصور المرحوم "سمير المصري" في شارع المساحة بالدقي للتوجه إلي موعدنا..كان هو صديق وبلديات الدكتور سمير عبدالحكيم، وإذا به يأتيني مكتئبا ويبلغني بأن سمير عبد الحكيم صديقه وبلدياته مقبوض عليه في قسم "مصر القديمة" علي أثر بلاغ ضده ،وأنه في طريقه إلي النيابة للتحقيق معه، ويحتاج إلي من يقف بجواره.
لا أعرف لماذا اندفعت؟ ودون تفكير مني في موعدي قلت: "بنا عشان نلحقه".. لم أدرك وقتها خطأ تصرفي، وماقد يترتب عليه، وأسرعت أنا وسمير إلي نيابة مصر القديمة، وهناك وجدنا حشدا من سيدات ورجال بسطاء جاءوا لمساندة الطبيب الشاب، وبعضهم يبكي لأجله، وعلي ألسنتهم روايات عنه كطبيب ينفق وقته للفقراء من المرضي، وأنه رحيم بهم.. يساعدهم بقدر ما يمكنه.
مضينا الوقت عنده وقررت النيابة حجزه لمدة أربعة أيام، وعدت إلي مكان عملي لأجد عاصفة غضب من صديقنا مدير التحرير الكاتب الصحفي عادل الجوجري رحمه الله، زاد منها اتصالا غاضبا من الوزير إسماعيل فهمي بالمكان.. قال عادل بحدة :"وضعت سمعتك وسمعة المكان في وضع سئ، ومعني اللي عملته انك ترجع بلدكم تقعد في أرضك تزرعها أحسن.. ولو عاوز تستمر عليك بالتصرف في إصلاح ما فعلت".
كان تحديد الموعد مع إسماعيل فهمي قصة في حد ذاتها، فحين اتصلت به وطلبت منه موعدا لحوار صحفي، سألني عدة أسئلة كانت نوعا من الاختبار حول ما إذا كنت أعرفه بما فيه الكفاية أم لا؟.. ولما عبرت هذا الاختبار بنجاح وافق، سألته :"وقتيه؟" فرد :"يعني إيه ؟" فأعدت عليه السؤال :"وقتيه؟" فرد وأعصابه تكاد تفلت منه :"يعني إيه يا ابني؟" وكادت خطوط التفاهم تنقطع بيننا، حتي نبهني صديق بجواري أدرك حجم مشكلتي فهمس في أذني :"قول له امتي"..قلت له :"أقصد امتي الموعد؟" فرد :"بكره الساعة 11 صباحا".
كان تنبيه صديقي طوق نجاتي، لكن الموقف كله كان مثيرا، حيث نبهني إلي أنني حتي هذا اليوم لم أكن أستطيع التفريق بين لهجتي الريفية التي صاحبتني من قريتي ولهجة المدينة، ولا أدرك أن كلمة "وقتيه" ريفية قحة لا يعرفها أهل المدينة، والغريب أنني وحتي الآن كلما أسمعها من بسطاء أهل قريتي أعود بذاكرتي إلي هذه الواقعة.
عبرت "أزمة كلمة وقتيه "لكن "أزمة عدم التزامي" أصبحت أعمق وأعنف، وفشل محاولتي باتصالي بمنزل الوزير لتطويق المشكلة.. تركت كل شيء ورائي وعدت إلي قريتي مهموما، كئيبا، وبقيت علي هذا الحال عدة أيام، حتي قررت العودة إلي القاهرة ومواجهة الأمر، وجهزت سيناريو للاتصال من جديد به بأن أنكر اسمي في حال ردت الخادمة عليِ حتي تقوم بتوصيلي إليه، وأتفادي أي كلمة من لهجتي الريفية قد تثير أعصابه.
من حظي أنه هو الذي رد علي التليفون.. أخبرته باسمي.. رد غاضبا :"عاوز إيه.. انت تعرف إنك لم تحترم موعد مع مين.. مع وزير خارجية مصر اللي أجبر العالم كله يتكلم عليه..كنت حديث العالم كله ".. قلت له :"سيادة الوزير: أنا أعرف خطأ تصرفي، وإذا كنت تقبل أن أوضح لك ماحدث سأذكره لك، وأنا أدق علي بابك تائبا "..رد :"التوبة لله".. أسرعت :"ونعم بالله، أنا أقصد التوبة بمعني التعلم، وأنا أخذت درسا علي يديك، وأنا يشرفني أن تمنحني فرصة جديدة للحوار حتي أذكر حقائق موقفك التاريخي والمشروف مع الرئيس السادات، وإذا لم توافق سأكون خسرت كثيرا، لكن قبولك لأسفي سيكون نصرا لي".
هدأ الرجل وسألني :"انت قريت مذكراتي (التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط ) قلت له :"قرأت عروضا حولها لكنني لم أقرأها كلها".. رد "اقرأها وبعدين كلمني نشوف نعمل إيه ؟..شعرت بأنني عبرت خطوة كبيرة، وأبلغت مدير التحرير عادل الجوجري، ووعدني بأن يحضر لي المذكرات من مكتبته في الغد وأعيدها إليه بعد قراءتها.
عكفت علي قراءة المذكرات التي تقترب من ال"500 صفحة"، كنت كمن سيدخل امتحانات في نهاية عامه الدراسي.. أكتب ملخصا لكل عدة صفحات، وبعد حوالي أسبوع انتهيت منها ،واتصلت به، وكررت عليه بعضا مما جاء فيها، فأعطاني موعدا.
ذهبت إليه في منزله الفخم والأنيق في منزله المطل علي النيل في الزمالك..لم نتطرق إلي مامضي..كان يدخن البايب، ارستقراطيا، معتدا بذاته إلي حد لافت..سألته عن، كيف تولد الخلاف بينه وبين السادات علي أثر تفكير الأخير في السفر لإسرائيل، وسألته عن دقائق مناقشاته المستفيضة معه للعدول عن هذه الفكرة ،ولما وجد السادات مصمما عليها تقدم باستقالته يوم 17 نوفمبر 1977 وسلمها إلي نائب الرئيس حسني مبارك وأذيعت يوم 18 نوفمبر باقتضاب في التليفزيون.
استمرت مقابلتي معه نحو ساعة ونصف.. أجاب عن كل أسئلتي و نشرت الحوار، وذهبت بالمجلة إليه، وأصبح مصدرا لي، أحدثه بين الحين والآخر للحصول منه علي آراء في ملفات خاصة بالسياسة الخارجية، وكان مرجعا في تفسير قرار 242 الصادر من مجلس الأمن الدولي بعودة الأراضي العربية المحتلة عام 1967 ..وبعد شهور طويلة من حواري الأول معه كنت أقوم بعمل سلسلة حوارات مع شخصيات محورها الأساسي "الوجه الآخر" ويشمل التكوين والهويات والعلاقات والإنسانيات لكل شخصية، وعرضت عليه الفكرة فرحب ، وزرته للمرة الثانية يوم 20 نوفمبر 1988 .
تحدث في لقائي الثاني عن فترة شغل فيها منصب وزير السياحة لوقت ليس طويلا قبل أن يشغل منصب وزير الخارجية، وتحدث عن هواياته في الاستماع إلي الموسيقي الكلاسيكية.. ومر بي في أرجاء الشقة مؤكدا أن أبرز دبلوماسيين العالم جاءوا إليه فيها أثناء زيارتهم إلي القاهرة، ومد يده في مكتبة وأخرج منها ألبوما هائلا للصور، وأعطاني مجموعة منها، كان من بينها صورا للقاءات علي العشاء مع ساسة عالميين.. وطرح أفكارا حول ما يجب فعله من أجل استعادة القاهرة لجمالها.. استأذنني أن أقوم معه.. تمشينا في الصالون الأنيق حتي وقفنا خلف زجاج التراس..كانت مياه النيل تجري، وهو يشير إلي الضفة الأخرى ممسكا بالبايب.. قال :"هل يصح أن يبقي هذا المنظر علي النيل؟..لماذا لا تقوم الحكومة بنقل أصحاب هذه الخرابات والعشش إلي أماكن أخري وتعطيهم تعويضات أو شقق جديدة، ويتم هدمها وبناء فنادق وأبراج مكانها ؟.
عدنا إلي حيث كنا نجلس.. سألني :"أنا لم أهديك مذكراتي في زيارتك السابقة.. صح؟ "..قلت له :"فعلا لم أحصل عليها" ..أحضرها من مكتبته، وكتب إهدائه لي:"إلي الأخ سعيد الشحات ..مع أطيب التمنيات والتوفيق..اسماعيل 20 /11/ 1988 ".