يتعجل البعض الحرب بين مصر وتركيا، وكأنها لم تبدأ أصلا.. وتلك هى المشكلة، وللأسف يتنبأ البعض بانتصار مصر على أردوغان، وكأننا لم ننتصر أصلا.. وتلك خيبة أخرى من خيبات الأميين الذين لا يجيدون قراءة واقع ما يحدث فى المنطقة الآن، وما حدث فى السنوات الماضية.
فى سياق المواجهات المصرية التركية، لا جديد فى تلك الأوراق، مصر تهزم أردوغان فى جولات مختلفة منذ 2011 وحتى الآن، انتصارات القاهرة على أنقرة تبدو مرئية لما يقرأ الواقع كما هو دون أن يلونه لخدمة مصلحة سياسية أو يؤله للاستخدام فى مكايدة سياسية أو يزوره ليستخدمه كسلاح يطعن به قلب وطنه لصالح خصومته السياسية.
المعطيات والوقائع والأحداث والأرقام والمعلومات التى يؤسس بها نتيجة صحيحة لا لبس فيها ولا غموض تخبرنا بأن مصر هزمت أردوغان فى كل مواجهة مباشرة وغير مباشرة، منذ تلك اللحظة التى أراد فيها الرئيس التركى أن يستغل انشغال مصر فى سنوات الارتباك بعد 25 يناير مرورا بمد يده الإخوانية للتلاعب فى الشأن الداخلى وفتح خزائن دعمه لجماعات الإرهاب، بهدف نشر الفوضى فى مصر ونهاية بخطة سرقة دور مصر الأقليمى، كلها مواجهات سقط فيها أردوغان مهزوما أمام الدولة المصرية، مثلما يترنح الأن تائها فى المواجهة الجديدة على أرض ليبيا.
العدو الذى فشل فى أن يقتنص منك فوزا واحدا فى معارك دائرة خلال تسع سنوات استنزفت موارده وهيبته وتركيزه وقوته وثقة العالم فيه، لن ينجح بالتأكيد فى أن يصمد كثيرا فى المواجهة الأخيرة خاصة وإن كان خطوته غير ثابتة ومغامرته فى الأراضى الليبية غير محسوبة، لذا لا تصدق إعلام الإخوان حينما يحدثك عن أوهام السيطرة التركية والنصر الأردوغانى الذى يلوح فى الأفق.. أردوغان سيظل كما الزمالك قادم، والإخوان كما جمهور الأبيض سيظلون أوفياء يبحثون عن أى نصر وهمى.
أما ما يحدث على الأرض فى ليبيا فلا يعدو كونه مناوشات مرتزقة وهى مناوشات حتى هذه اللحظة لا تحطى بدعم ليبيى داخلى، لأن ليبيا نفسها منقسمة على نفسها، ولا تحظى بأى تأييد دولى، لأن الدعم الدولى سبق وأن حصدته مصر بجهدها الدبلوماسى والسياسى المتوازن والمحترم تحت غطاء الأمم المتحدة ومجلس الأمن أسفل شعار الحل السياسى فى ليبيا بعيدا عن الدم والاقتتال الأهلى أو التدخلات الخارجية العسكرية، وهو الموقف الذى حظى بدعم فرنسا وإيطاليا والشعب الليبيى منذ اللحظة الأولى، وتوجت مصر نجاحها بإعلان القاهرة الأخير الذى حظى بدعم فرنسا وأمريكا وإيطاليا وروسيا وامريكا والإمارات والسعودية والبحرين وغيرهم من الدول.
يستخدم أردوغان أدواته الإخوانية فى نشر أوهام بخصوص السيطرة على ليبيا عبر الاتفاق مع السراج، وكأن السراج وحكومته مصدر قوة داخل ليبيا التى يخبرنا واقع الحال فيها أن السراج نفسه لا يتحكم فى حكومته المزعومة وغير قادر على معرفة كيف يحمى الشعب الليبى من الملشيات المتناحرة فوق أرضه.
حتى الترويج الإخوانى عن السلاح والمسلحين الذين تنقلهم تركيا إلى ليبيا هو ترويج فى النهاية يدين أرودغان ويقدمه على طبق من ذهب للمجتمع الدولى كمجرب حرب يتدخل فى شؤون دولة أخرى باستخدام المرتزقة، بالإضافة إلى أن واقع الحال فى ليبيا وفى كافة حروب المرتزقة على مدار التاريخ يؤكد أيضا أن الملشيات والمرتزقة ينشرون الفوضى والقتل والدم ولكنهم لا يحققون السيطرة وإن لم تحدث السيطرة فلا مكاسب، وإن غابت المكاسب فلا نجاح يمكن أن يحققه أردوغان إذن، سوى أنه دخل فى مواجهة مفتوحة يبتغى منها سرقة ثروات الشعب الليبيى واستغلال الأراضى الليبية فى تهديد الأمن القومى المصرى، وتلك أمور لا يحققها شخص لا يملك السيطرة ويتم استنزاف موارده فى دعم الملشيات والمعارك الدبلوماسية والسياسية المفتوحة مع دول أخرى بعضها يبحث عن الهدوء والاستقرار فى منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط وبعضها له مطامع.
إذا يبدو طريق أردوغان مسدودا، «مسدود» كما قالت العرافة الشهيرة وهى تقرأ فنجان العندليب عبد الحليم حافظ، ويبدو أن أردوغان يبذل هذا الجهد فى محاولته الأخيرة لاستعادة بعض ماء وجهه وتعويض بعض من خسائره والتغطية على فشله الداخلى والخارجى خلال السنوات الماضية، وطريق أردوغان المسدود بدأ هنا فى القاهرة التى لقنته الدرس تلو الآخر والصفعة بعد الأخرى، ولكن «العنطزة» والغرور العثمانلى يمنعه من الإعتراف بذلك.
أردوغان ومن يخدمه من ضباع جماعة الإخوان يعلمون جيدا أن مؤسسات الدولة المصرية التى ظن البعض أنها انهارت فى سنوات الإرتباك بعد 25 يناير حققت أول انتصاراتها على تركيا، حينما أوقفت مخطط نشر الفوضى فى ربوع مصر، ثم عادت نفس المؤسسات وحققت انتصارات أخرى كبيرة على أردوغان، حينما أنفق الملايين ووضع مئات الخطط للتدخل فى الشأن الداخلى المصرى وتحويل جماعة الإخوان إلى ذراع يحكم من خلالها مصر، إلا أنه استيقظ على ألم مبرح وهو يشاهد مؤسسات الدولة المصرية ومعها الشعب يقطعون ذراعه فى مصر ويطيحون بحكم الإخوان ومحمد مرسى من داخل قصر الرئاسة، قبل أن يتم أردوغان وجماعة الإخوان خططتهم فى التوغل والسيطرة والانتشار .
أردوغان أنفق فى تلك المعركة مليارات الدولارات فى شكل دعم لوجيستى مثل مشروع القمامة أو دعم إعلامى وخططى لمساعدة محمد مرسى على تجاوز الغضب الشعبى ضده، ولكنه لم يحصد سوى الفشل فخرج بعد 30 يونيو 2013 مصابا بلهوسة سياسية يطلق التصريحات يمينا ويسارا ويحشد العالم ضد مصر لإعادة محمد مرسى إلى الحكم، ليجد نفسه مهزوما بالضربة القاضية فى معركة إعادة مرسى للحكم، وهو يشاهد مصر تخطو للأمام بانتخابات برلمانية ورئاسية وتختار رئيسها الجديد وتستعيد وجودها الإقليمى وتنتزع اعترافات دول العالم بشرعية ثورة 30 يونيو .
و30 يونيو نفسها كانت معركة أخرى خسرها أردوغان أمام مصر، فلقد أنفقت تركيا الأموال وفتحت خزائن دعمها وتصريحات مسؤوليها لتحريض العالم ومؤسسات العالم على وصفت ما حدث فى 30 يونيو بأنه انقلاب عسكرى يستدعى التدخل الدولى، ولكنها فشلت فى تحقيق ذلك، وانتصرت مصر وهى تنتزع اعترافات العالم بشرعية ثورة 30 يونيو وتعود القاهرة إلى الاتحاد الأفريقى وتمارس دورها الدولى والإقليمى كشريك هام على كافة موائد التفاوض حول قضايا الشرق الأوسط.
ثم تأتى مرحلة ما بعد 30 يونيو ليتلقى أردوغان هزيمة جديدة، فتح الرئيس التركى خزائنه ومكاتب أجهزة مخابراته من أجل دعم ملشيات الإرهاب فى سيناء وفى شوارع مصر، وفتح للإخوان فضائيات وأماكن لإيواء قيادات الجماعة الهاربة، وظن أنه سينشر الإرهاب فى مصر وسيعطل مسيرة التنمية التى بدأها الرئيس عبد الفتاح السيسى، ليكتشف فجأة أن رجال القوات المسلحة والشرطة المصرية يقدمون أعظم البطولات والتضحيات لتطهير أرض مصر من الإرهاب وهزيمة خطة أردوغان لنشر الفوضى فى سيناء.
غرور العثمانلى صور له أنه قادر على خوض جولة جديدة أمام القاهرة، وبدأت تركيا معركة جديدة أنفق عليها أردوغان الكثير بهدف واحد فقط هو تشويه الجيش المصرى وتحطيم جدار الثقة بين الجيش والشعب، استغل أردوغان عبيد مكتب الإرشاد الذين باعوا أنفسهم وتحولوا إلى أراجوزات تنصب حفلات الكذب الليلية، ويبثون سمومهم من أنقرة وإسطنبول لتشويه الجيش المصرى وتشكيك الشعب المصرى فى قواته المسلحة، وكان أردوغان وإخوانه على موعد جديد مع هزيمة جديدة حينما انتفض الشعب المصرى يرد على سفالات وأكاذيب تلك الفضائيات الإخوانية ويشكل حائط الصد الأول لحماية جيشه من تلك الحملات الإعلامية المسمومة.
حتى على مستوى الدراما كانت الخطة التركية فى غزو المنطقة العربية وسحب البساط من مصر دراميا تسير بشكل جيد، إنتاج درامى يغزو البيوت المصرية يحقق نسب مشاهدات مرتفعة وفيه حشو مكذوب عن تركيا وأوضاعها وتاريخها، ثم فجأة تستيقظ مصر من ثباتها وتستعيد مكانتها الفنية، وتحقق انتصار جديد وتستعيد ريادتها الدرامية فى موسم رمضانى متنوع ومختلف وبإنتاج يفضح الممارسات الإخوانية سواء سينمائيا، كما حدث فى الممر أو تليفزيونيا كما حدث فى الاختيار.
أما فى حوض المتوسط ومعركة الغاز، تقول القاعدة الثابتة، إن هجوم عدوك واجتهاده فى الصراخ للتشكيك فى خطوة تتخذها أنت لمصلحة وطنك، مؤشر ودليل قوى على صحة تلك الخطوة، ومكاسبها لصالحك، يصاب العدو بهستيريا التشكيك والهجوم إذا كان مسارك ثابتا وصحيحا، ونتائجه قوية.
تخبرنا دفاتر أمثالنا الشعبية بعبارة مدهشة: «عينى فيه وأقول إخى»، وتلك العبارة الشعبية هى خارطة الطريق التى تمكنك من تفهم وإدراك كل هذا الهجوم التركى على مصر عبر وسائط إخوانية أو فيسبوكية أو نشطاء الخصومة مع الدولة، فيما يخص قضية غاز المتوسط والتنسيق المصرى مع قبرص واليونان، نجحت مصر فى خنق الطموح التركى عبر 7 قمم ثلاثية مع قبرص واليونان أسفرت عن تدشين تحالف حقيقى، أصاب أردوغان بالزعر وكتب عليه هزيمة جديدة، وهو يشاهد إعلان تأسيس منتدى الغاز فى شرق البحر المتوسط ومقره القاهرة، لتصطدم أطماع الرئيس التركى فى ثروات الغاز بمنطقة شرق المتوسط، بأرضية قانونية صلبة للدول الأعضاء بمنتدى غاز شرق المتوسط.
هل يمكننا أن نسير بهدوء معًا فوق خريطة معلوماتية تشرح لنا طبيعة ما حدث..
أولًا: منتدى غاز المتوسط خطوة كبرى فى مجال الطاقة بالمنطقة، واختيار مصر كمركز له انتصار كبير للإدارة المصرية التى تستعيد رونقها ومفاتيح الحركة والحل فى المنطقة كلها، وتكليل لجهود المؤسسات المصرية فى مجال الطاقة واكتشافات الغاز والبترول فى الفترة الأخيرة، وطبقًا لكل المعلومات والإحصائيات الواردة فى الدوريات العلمية ومراكز الأبحاث مصر على موعد مع تحقيق الاكتفاء الذاتى من الغاز، وآن الأوان أن ننطلق كقوة إقليمية ودولية فى هذا المجال.
ثانيًا: إعلان وزراء الطاقة فى 7 دول، من بينها مصر،، إنشاء المنتدى، على أن يكون مقره العاصمة المصرية، القاهرة. والدول المشاركة هى: إيطاليا، واليونان، وقبرص، والأردن، وإسرائيل، وفلسطين، على أن تكون العضوية مفتوحة لمن يرغب بذلك، أى كل ما يروجه الإخوان عن سيطرة تركية هو وهم هدفه تعويض الفشل
ثالثًا: مصر كانت من الدول السباقة بالمنطقة فى إنشاء وتأسيس بنية تحتية لتسييل الغاز، ولذلك يتعامل سوق الطاقة العالمى مع مصر على أنها مركز لتداول وتسويق وتوزيع الغاز الطبيعى المسال فى منقطة البحر الأبيض المتوسط، وفى هذا التخصص يوجد فى مصر محطتان فى منطقة الدلتا وتحديدًا فى إدكو ودمياط، تملك الدولة المصرية فيهما حصصًا بالمشاركة مع شركاء أجانب، بالتفصيل فى مصنع إدكو تساهم الهيئة المصرية العامة للبترول بنحو %12، والشركة المصرية القابضة «إيجاس» بنسبة %12، وشركة «شل» بـ%35.5، وشركة بتروناس الماليزية بـ%35.5، ومعها شركة «إنجى» الفرنسية بحوالى %5، وفى دمياط تملك شركة إسبانية حق الإدارة، مع شراكة من شركة «إينى» الإيطالية، بينما تملك الشركة المصرية «إيجاس» أسهم تقدر بـ%10، والهيئة المصرية العامة للبترول «%10».
رابعًا: باختصار مصر أصبحت هى المركز الذى يحتاج إليه الجميع فى المنطقة فيما يخص مجال الطاقة واكتشافات الغاز تحديدًا، وهى القبلة التى يحتاجها الجميع لإعادة تصدير الغاز فى صورة غاز مسال إلى أوروبا وآسيا، وهو ما يعنى نشاطا اقتصاديا جديدا فى مجال الطاقة يجعل مصر دولة محورية فى هذا المجال.
خامسًا: الهجوم التركى بالألسنة الإخوانية سببه الرئيسى هو خسارة تركيا أمام مصر، تركيا تحديدًا كانت تطمع أن تكون هى مركز الطاقة فى منطقة الشرق الأوسط أو البحر الأبيض المتوسط تحديدًا، وفشلها فى ذلك وفوز مصر فى هذه المعركة يعنى خسائر اقتصادية وسياسية للأتراك وانتقاص من حصصهم فى سوق الغاز ومجالات الطاقة عمومًا، وربما الهستيريا التى أصابت أردوغان منذ ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص واليونان ثم اكتشاف حقل ظهر تفسر لك أطماع أردوغان التى ضاعت الآن، وينتقم لضياعها باستخدام الإخوان فى الهجوم على مصر وتشويه صورتها والتشكيك فى الدولة وقدرتها، ويفسر لك أيضا حالة التشنج والرغبة الملحة للدخول التركى فى المسألة الليبية.
كافة المعطيات والأوراق المطروحة، بالإضافة إلى إعلان القاهرة الأخير بخصوص الوضع فى ليبيا والذى حظى بتأييد دولى واسع، كلها أمور تؤكد على أن تركيا وصلت إلى منطقة المتوسط متأخرة، وخلال الوقت الذى كان فيه أردوغان يمارس عنتريته فى التصريحات والمعارك داخل الأراضى السورية كانت مصر قد رسمت خرائطها ورتبت أوراقها داخل حوض المتوسط، ليكون أردوغان على موعد مع هزيمة جديدة وصفعة مصرية جديدة على وجهه التركى المترهل من تتالى الصفعات وشدتها.