1
كنا في الساعة السادسة مساء يوم 12 يونيو 1999، وكانت مركب «ليلة» أو "فرح بوت" بالقرب من السفارة الفرنسية، ومنزل الرئيس الراحل أنور السادات، هى مكان هذا اللقاء النادر بين أديب نوبل نجيب محفوظ ، وخالد جمال عبد الناصر، وتم بترتيب مني مع الكاتبين جمال الغيطانى ويوسف القعيد، وذلك على خلفية الضجة الكبيرة التى أثارها "محفوظ" ضد ثورة يوليو 1952 وزعيمها جمال عبد الناصر، في سيرته الذاتية التي كتبها الناقد رجاء النقاش. أحدث هجوم "محفوظ" ردود فعل عنيفة، وبقيت أسرة عبد الناصر صامتة، حتي أجريت حوارا مع الدكتور خالد، ونشرته في جريدة البيان الإماراتية علي ثلاث حلقات، وجريدة العربي لسان حال الحزب الناصري.
قال خالد في الحوار: «أنا تعاملت مع ما قاله نجيب محفوظ بالطريقة تعامل أمى مع الشيخ الشعراوى، هي رحمها الله كانت تحب الاستماع إليه فى التليفزيون كل يوم جمعة، وسألتها مرة عن سبب هذا الحرص رغم هجوم الشيخ على جمال عبد الناصر، فلم تعطينى إجابة وظلت على عادتها، وفسرت ذلك بأنها فصلت بين كون الشعراوى شيخا يفسر القرآن، وبين رأيه السياسى، فى الأولى يحبه الناس، وفى الثانية يختلفون معه، وبهذا المعيار أقول حين يكتب نجيب محفوظ فى الأدب، له كل التعظيم، أما حين يتحدث فى السياسة بالشكل الذى تحدث به فى مذكراته، نقول له ، نحن نختلف معك يا أستاذ، وأنا كابن لجمال عبد الناصر أقول له إن كل ما قلته فى حق الوالد أنا أغفره لك، وأعتقد أن الكل تعامل معه على هذا النحو".
أضاف خالد: «نجيب محفوظ أديب كبير، ورثت أنا وإخوتى حب أدبه من الوالد الذى كان يحب قراءته، بالإضافة إلى مشاهدته الأفلام السينمائية لرواياته، ولن أتحدث عن تدخله المباشر فى بعض الأحيان لصالح هذه الأعمال الروائية أو السينمائية لأن آخرين تحدثوا فيها".
بعد نشر حوارى، اتصل بي جمال الغيطانى، وأخبرنى بأن الأستاذ نجيب يريد إبلاغ خالد شكره على ما قاله فى حقه، ثم اتصل بي يوسف القعيد وقال لي: «فور أن علم الأستاذ نجيب أن الدكتور خالد تكلم عنه، كان مشتاقا كثيرا إلى معرفة طبيعة هذا الكلام، توقع أن يكون عبارة عن مذبحة، لكنه فوجئ بنبل ما قاله "..أضاف القعيد : نجيب محفوظ وفدى الهوى، وهذا معروف عنه بحكم تكوينه قبل ثورة يوليو 1952، لكنه حقق نفسه فى مشروع عبدالناصر وليس فترة السادات، وهو حدثنى أكثر من مرة فى جلساتى معه قائلا: «عمرى يا يوسف فى أدبى اللى كتبته فى الخمسينيات والستينيات ما طالبت ببديل لعبد الناصر، أقول له خليك لكن حقق كل اللى كان بينادى به الوفد".
2
أبلغت خالد بكل هذا الكلام، وكان وقعه طيبا عليه، وفاجأني بطلبه: «أنا مستعد أزور الأستاذ فى أى مكان»، التقطت الخيط: «فكرة عظيمة يا دكتور خالد فلتسمح لى أن أسعى إلى تنفيذها»، رد: «توكل على الله، أنتظر الموعد الذى يحدده الأستاذ وأنا تحت أمره لكن أرجو ألا يتم اللقاء تحت أى مسمى سياسى، حتى لا يتهمنا البعض بالسعى إلى تأويله وتوظيفه فى غير موضعه"، ودارت العجلة بعد أن أبلغت الغيطاني، وتحدد الموعد يوم الثلاثاء وهو الموعد الأسبوعي الذي يلتقي فيه نجيب مع مجموعة، فيها ، الغيطاني، والقعيد ، وعبد الرحمن الأبنودي ، ونعيم صبري ، وفريدة الشوباشي ، وزوجها علي الشوباشي، والشاعر هشام السلاموني.
في الموعد المحدد اصطحبت الدكتور خالد ومعي الكاتب والباحث أمين إسكندر، ودخلنا إلي القاعة..كان الغيطاني والدكتور زكي سالم يجلسان بجوار الأستاذ نجيب، وأخبره الغيطانى بقدوم خالد، فقام الأستاذ لكن خالد أسرع إليه وتعانقا الاثنان بحرارة.
قال الأستاذ: أهلا ، أهلا ، شرفتني قوي يا غالي يا ابن الغالي"، وطبع خالد قبله علي وجهه واثنان على رأسه قائلا: شرف لى يا أستاذ هذا اللقاء، كلى سعادة أن اطمئن عليك وأشوفك، وتأكد أن كلنا بنحبك"، رد الأستاذ نجيب بصوت يقاوم شيخوخة العمر ووهن الجسد: "انت اللى شرفتنى قوى يا خالد، أى والله."
جلس خالد بجواره، كان فنجان القهوة السادة أمام الأستاذ، وسيجارة الـ «كنت» فى يده يتنفسها باستمتاع رغم سنواته التى تخطت الثمانين، تأملت العيون وجه نجيب محفوظ المبتسم، وخالد المترقب موزعا ابتساماته للحاضرين، وبعد نظرة منه إلى النيل عبر نافذة المركب، قطع الصمت قائلا: يا أستاذ نجيب..شرف كبير قوى أن أقابل حضرتك، وأشوفك وأطمئن عليك، رد نجيب محفوظ: انت اللى شرفتنى قوى.. أى والله، قال خالد: انت أستاذنا، وأنت روائى عظيم، وأعمالك كلها فى قلبى وقلوب كل الشعب المصرى والعربى، وبالمناسبة جمال الغيطانى من جيلى وأعتبره أخى وأستاذى.
رد الغيطانى: هذه لحظة مهمة مملوءة بالأحاسيس الفياضة والمشاعر الجميلة لأنها تجمع أستاذنا العظيم نجيب محفوظ، والدكتور خالد الذى نحبه ونقدره كما نحب ونقدر والده العظيم جمال عبد الناصر.. قال خالد: انت معزتك كبيرة عندنا يا أستاذ نجيب والمؤكد أننا نحبك، رد نجيب: أنا اللى شجعنى يا خالد انك قلت أنا غفرت له.. (مشيرا إلى ما قاله خالد فى حواره لى: "باعتبارى ابن لجمال عبدالناصر أغفر لأستاذنا الكبير كل ما قاله فى حق الوالد».. ضحك الجميع على لقطة نجيب، وقال خالد: انت تقول يا أستاذنا ويا عمنا الكبير زى ما انت عايز تقول، فرد نجيب محفوظ: والله القلوب عند بعضها يا خالد يا غالى يا ابن الغالى".
3
نقل الغيطانى الحوار من حالة الترحاب والمجاملات قائلا: تزاملت مع الدكتور خالد فى منظمة التضامن الآفر آسيوى فى مرحلة السبعينيات، رد خالد: نعم يا جمال كانت أيام مهمة وفيها تواصل جيد، وبالمناسبة يا جمال انت كنت وقتها تكتب أجزاء رواية «التجليات»، فاكر يا جمال كنت بتكتبها جزء جزء، وأنا كنت أنتظر كل جزء بفارغ الصبر لقراءته، هو عمل روائى عظيم، وفيه جهد منك جبار فى الحبكة الروائية والحدوتة نفسها وفى استخدامك للتراث، وعلى فكرة يا جمال، تعرف ان أحلى قصة قرأتها لك «اتحاف الزمان»..الله.. الله.. يا جمال عمل أدبى عظيم."
يتدخل نجيب محفوظ : ما شاء الله يا خالد..انت بتعز جمال قوى زى ما هو بيعزك، وكمان انت قارئ ممتاز لأعماله، رد خالد: طبعا يا أستاذ، بس انت الأصل، وانت أعمالك فى القمة، وهى علمتنى حب الأدب وقراءة الروايات، وعرفت منها قيمة الكلمة العظيمة، وإذا كان هناك فضل لحبى لقراءة أعمال الغيطانى، فهو يعود إليك أنت، رد الغيطانى: على فكرة، قصة «اتحاف الزمان»، هى نواة رواية «الزينى بركات» التى كتبتها فيما بعد.
تتدخل فريدة الشوباشى قائلة: "التجليات تشتمل على وجدان هائل، وشجن كبير، فيها المزج بين الوالد.. (والد جمال الغيطانى)، والحسين بن على، وجمال عبد الناصر، أنا قرأت أدب جمال الغيطانى كله وأحببته، لكن التجليات وحدها هزتنى وأبكتنى".
يسأل الغيطانى الدكتور خالد: يا ترى يا دكتور.. هل ذهبت إلى منطقتى نجيب محفوظ.. الجمالية، والحسين؟، يرد خالد: قليل، وبالمناسبة أذهب إلى الحسين لما أكون متضايق، أشوف الناس وهى تضحك ومبسوطة وبترمى الدنيا ورا ضهرها وتعيش عيشة البساطة، اللى ماشى مبسوط، واللى قاعد مبسوط، واللى نايم مبسوط، الكل فى حاله وفى ملكوته، أشعر إنى عايش، وشايف الناس بجد".
يعلق الغيطانى: كل المعانى التى تذكرها يا دكتور خالد موجودة فى روايات وحكايات الأستاذ نجيب، يرد خالد: صحيح هى موجودة فى أدب الأستاذ، والمدهش أنك حين تقرأ رواياته تشعر وكأنك تعيش فى هذه المنطقة.
4
حضر يوسف القعيد واعتذر عن التأخير، ثم عانق خالد الذي ترك له مكانه بجوار نجيب محفوظ، وقال خالد: تأذن لى يا أستاذ نجيب، بالانتقال من مكانى وأؤكد لك من تانى، أنا فرحان بوجودى بجوارك، واحنا أولادك، وتحياتى للمدام، هى زارت أخى عبد الحميد فى المستشفى."
رد نجيب: "والله يا خالد يا ابنى أنا فرحان.. ولولا أنى خجلان كنت أبقى فرحان، فرحان.. قوى.. قوى.. قوى، ومهم يا خالد تقول كل الكلام والحقائق اللى عندك عن الوالد، يتدخل الغيطانى: على فكرة يا دكتور خالد، الأستاذ نجيب قال لنا إنه كان يعيش فى العباسية وجار لوالدتك السيدة الفاضلة تحية كاظم، وكان صديقا مباشرا لأخيها مصطفى كاظم، وكان يسمع عن أن لها أختا، لكن لم يشاهد السيدة تحية أبدا، يتدخل نجيب محفوظ مضيفا: آه.. مصطفى كاظم كان من شلة العباسية، وكنا نتقابل فى مقهى عرابى فى العباسية، كانت شلة للتسلية والمرح وتفرقت كلها، يعلق خالد: الوالدة كانت تعيش عند شقيقها خالى عبد الحميد كاظم الله يرحمه، وأنا يا أستاذ أتمنى ان أحصل منك على الثلاثية «بين القصرين، السكرية، قصر الشوق» وعليها إهداء بخط إيدك، يرد نجيب محفوظ: عينى، عينى يا سلام، اعتبر الثلاثية موجودة عندك وعليها الإهداء."
5
كانت سيرة جمال عبد الناصر تفرض نفسها على الجلسة، رغم حرص خالد من البداية على أن تكون إنسانية وحميمية، وليست سياسية.. يلتفت القعيد إلى نجيب قائلا: نحن سعداء بلقائك بالدكتور خالد ، وانت يا أستاذ صحيح وفدى، لكن بداخلك جزءا ناصريا لا تنكره، يرد نجيب محفوظ: آه.. آه.. طبعا يا يوسف.. وكل كلام خالد عنى فى منتهى النبل".. يتدخل الغيطانى سائلا :بمناسبة هذا اللقاء، أسأل الأستاذ نجيب: هل كنت عضوا فى حزب الوفد قبل ثورة يوليو1952؟..رد الأستاذ: لا..لا.. لكن الناس على أيامنا كانت كلها وفدية، تقدر تقول يا جمال أنا كنت من جماهير الوفد، وبعدين يوليو ما كانتش جت.. يسأله الغيطانى: ولا كنت عضوا فى الطليعة الوفدية يا أستاذ؟، يجيب: لا.. أنا كنت متعاطف معاها قوى، وكان الدكتور محمد مندور صديقى (أبرز قادتها)، وعبد القادر جمعة، وكان صديقى أيضا، وعلى فكرة يا جمال هما كانوا بينادوا بالمبادئ اللى طبقها جمال عبد الناصر.
يسأله أمين اسكندر: ما هى مبادئ الطليعة الوفدية يا أستاذ اللى طبقها عبد الناصر؟، يجيب: كانوا بينادوا بالاشتراكية والعدالة، وطبعا هو ده الكلام اللى طبقه عبد الناصر.
كان نجيب محفوظ يسرد بعضا من ذكرياته، و يتحدث بيقظة رغم وطأة الشيخوخة التى زحفت على قوة السمع والبصر، لكنها لم تزحف إلى الذاكرة، وفنجان القهوة لا يزال أمامه، وأشعل سيجارة أخرى، وتحدث عن ذكرياته وقت زيارة عبد الناصر إلي الأهرام ،وأشياء أخري.