كانت الاستعدادات السرية تتواصل فى مصر من أجل إطلاق شارة البدء للكفاح المسلح فى الجزائر ضد الاحتلال الفرنسى، كان فتحى الديب ضابط المخابرات والمسؤول فيما بعد عن الشؤون العربية فى رئاسة الجمهورية هو المسؤول عن إدارة العملية بتكليف من جمال عبد الناصر، وكانت الاستعدادات تتم مع شباب جزائريين قرروا أن الكفاح المسلح وحده سيجبر الاحتلال الفرنسى على الرحيل.
لم يجد هؤلاء الشباب غير باب مصر يدقونه بعد ثورة 23 يوليو 1952 طلبا للمساعدة، وحضر أحمد بن بيلا قائد الثورة الجزائرية وأول رئيس لها بعد الاستقلال عام 1962، هاربا ومتخفيا تحت اسم «مزيانى مسعود»، وتوجه إلى الإذاعة طالبا مقابلة أحمد سعيد رئيس «صوت العرب» يوم 27 سبتمبر 1953، حسبما يؤكد «سعيد» فى مذكراته «غير المنشورة» التى يكشف فيها القصة كلها فى فصل «الجزائر بلد المليون شهيد، ومخاض ثورة فى مكاتب صوت العرب».
قام «سعيد» بتقديم «مزيانى مسعود» إلى فتحى الديب، وبعد أيام قليلة كشف «مسعود» للديب أن اسمه الحقيقى هو «أحمد بن بيلا»، وجاء باسم مستعار حتى لا تنكشف حقيقته لأنه هارب من سلطات الاحتلال، وفيما كانت مصر تعد عدتها لتقديم الدعم لبدء ثورة الكفاح المسلح يوم 1 نوفمبر 1954: «كانت صوت العرب تبدأ أعظم معاركها مع ثورة الجزائر» بوصف الكاتب الصحفى عبد الله السناوى فى كتابه «أخيل جريحا، إرث جمال عبد الناصر»، مضيفا: تقدمت مصر لنصرة قضية الجزائر بكل ما تملك وتقدر عليه من دعم مال وسياسى وعسكرى وإعلامى وفنى، وتحول «صندوق أحمد سعيد» إلى أيقونة الثورة، وصوته واصل إلى كل بيوت الصفيح وفوق جبال «الأوراس».
قدم «بن بيلا» كلمة على «صوت العرب» لأول مرة، الجمعة 2 يوليو، مثل هذا اليوم، 1954.. يذكر «السناوى» أنه تم إذاعة مقدمة غنائية بصوت «محمد عبدالوهاب» وكلمات أمير الشعراء أحمد شوقى ويقول فيها: دم الثوار تعرفه فرنسا/ ونعرف أنه نور وحق/ صحت ونحن مختلفون دارا / ولكن كلنا فى الهم شرق، ويتذكر سعيد، أنه قرأ تعليقه وجاء عن الجزائر فى صياغة سردية ذات عبارات مرسلة على غير ما كان اعتاد وعوًد مستمعيه من جمل قصيرة مسجوعة أو غير مسجوعة، ولكن أداءها يتردد فى الأسماع مدويا منضبط الإيقاع، ثم قدم بن بيلا قائلا: «أخ جزائرى فى حديث من العقل والقلب إلى الضمير والوجدان».
كانت الكلمة مكتوبا بالفرنسية، وترجمها إلى العربية أربعة رجال، اثنان جزائريين من رفاق بن بيلا هما «محمد خيضر» و«حسين آيت أحمد».. ومن مصر «فتحى الديب» و«أحمد سعيد».. يذكر سعيد: «كانت كتابة النص المترجم بالحروف اللاتينية حتى يمكنه قراءتها للجمهور العربى، قال: «أحدثكم من صوت العرب من القاهرة مدينة الأزهر الشريف»، ودعا إخوته فى الجزائر إلى التمسك بالصبر «وبشر الصابرين»، والأمل فى المستقبل «إنما أموالكم وأولادكم فتنة وإن الله عنده أجر عظيم»، وتأكيد وحدة الشعب «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا«.
يؤكد السناوى: «كانت نهاية خطاب بن بيلا عميقة وملهمة، قال: «كان الفرنسيون يقولون فى أعماقهم دون صوت أيام بطش احتلال النازى: فرنسا للفرنسيين.. فليردد كل الجزائريين، لو بصوت أخرس صباح مساء، كلما رأوا فرنسيا جنديا أو مستوطنا: الجزائر للجزائريين»، يضيف السناوى: «كرر العبارة نفسها باللغة الفرنسية، كان قاسيا على مشاعره أنه لايستطيع أن يتحدث بلغة بلاده وقرآن دينه، وقطع التسجيل أكثر من مرة لاعنا «الفرنسية» التى فرضتها سلطات الاحتلال على بلده ومواطنيه».
يذكر السناوى: «فى سنوات سجنه فى باريس بعد اختطاف طائرة تقله مع أربع قيادات تاريخية أخرى، علم نفسه العربية وأتقنها، وفى يوليو 1962 ألقى خطابا آخر عبر «صوت العرب» من الجزائر المستقلة ولكن هذه المرة بلغة عربية متمكنة»، يتذكر سعيد، أنه عقب حديث «بن بيلا» أذيع نشيد جزائرى يغرد بكلماته أشبال الكشافة الجزائرية الذين كانوا صيف يوليو 1953 فى معسكر دولى لأشبال الكشافة مقام فى المعسكر الدولى للكشافة بحلوان، وتقول أبيات من هذا النشيد الذى يحمل نجمة شمال أفريقيا: «ولتحيا الجزائر مثل الهلال / ولتحيا فيها العربية / رضينا بالإسلام دينا / كفى بالجهال تدنيسا / وها هو أحمد يحدو بنا/ وها هو جبريل فينا يناد/ ألا فى سبيل الاستقلال/ ألا فى سبيل الحرية».
يؤكد سعيد: «عقب انتهاء إرسال صوت العرب توجهنا إلى لقاء جمال عبد الناصر».