لم تنته مآسى اللاجئين بوصولهم إلى الأراضى الأوروبية بعد تجاوزهم مخاطر البحر، وإن كان الكثيرون قد لقى حتفه قبل بلوغ الساحل، فالواقع أثبت أن مآسى الكثيرين بدأت مع وصولهم إلى الأرض التى ظنوها "أرض الأحلام" وللأسف أغلب أولئك الذين غرقوا فى رحلة مظملة لا تبدو نهاية لها هم الأطفال، الفئة الأضعف والأكثر تضررا دائما.
مأساة جديدة تم الكشف عنها مؤخرا يواجهها الأطفال اللاجئين، فلقد أعلنت وكالة المخابرات الجنائية التابعة للاتحاد الأوروبى "يوروبول"، فى 31 أكتوبر الماضى، أن 10 آلاف على الأقل من الأطفال اللاجئين غير المصحوبين بذويهم اختفوا بعد وصولهم لأوروبا.
لكن المحنة الكبرى لأولئك الأطفال تتمثل فى مخاوف أعلن عنها مسئولو المنظمة إزاء سقوطهم فى أيدى عصابات تهريب منظمة، واستغلال الأطفال بشكل إجرامى من قبل عصابات تجارة الجنس والمخدرات وغيرهم من العصابات عن طريق نفس الجماعات الإجرامية المنظمة التى تنقل اللاجئين إلى أوروبا.
بعض الأطفال انفصلوا عن أسرهم بعد وصولهم أوروبا خلال طريقهم من اليونان إلى إيطاليا، والبعض الآخر يصل إلى أوروبا دون عائلته، فبحسب منظمة إنقاذ الطفولة فإن 26 ألف طفل وصلوا إلى أوروبا بدون عائلاتهم، وأعلنت المفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون اللاجئين أن عدد اللاجئين الذين وصلوا إلى أوروبا قد زاد خلال عام 2016، وأن أغلبهم من النساء والأطفال، مشيرة إلى أن واحدا من بين كل ثلاثة أشخاص وصلوا إلى اليونان من الأطفال مقارنة بواحد من بين كل عشرة فى سبتمبر 2015.
ديار الابن الضائع
ديار إبراهيم أحد أولئك الأطفال المختفين، الذى يشتبه فى سقوطه بيد عصابات الاتجار بالبشر، فبحسب والده، الذى تحدث لـ "انفراد" من تركيا عبر الهاتف، فإنه بعد أن ضاقت بهم الظروف بسوريا لما شاهدوه من ترويع وعنف بسبب الصراع المشتد فى بلادهم، فروا إلى تركيا وهناك قرر الأب، فى أغسطس 2015، إرسال ابنه إلى أوروبا عن طريق المهربين آملا فى انتقال باقى العائلة إليه بموجب قوانين "لم الشمل" المطبقة فى بعض البلدان الأوروبية ومنها ألمانيا.
لكن الخطة لم تسر كما كان مقررا لها، فالقارب الذى كان يحمل "ديار"، صاحب الـ15 عاما وتسعة من الصبية فى سنه، لم يتحمل الأمواج المتلاطمة والبحر الهائج حاله حال الصراع الذى دفعهم من بلادهم هربا، ليغرق قبالة ساحل جزيرة "بسريموس"، اليونانية النائية، غير أن العناية الإلهية دفعت بخفر السواحل لإنقاذهم ثم اقتيادهم لمركز شرطة كالمينوس.
ومع ذلك يقول الأب أن بعد عملية الإنقاذ، الصبية لم يعرفوا مصير زميلهم "ديار" الذى ظل مجهولا إلى أن جاءه اتصال بعد الحادث بيومين وسمعوا صوت "ديار" بصعوبة ولم يفهموا ما يقوله حيث كان يبدو متعبا.
ويضيف: "حاولنا إعادة الاتصال فى الأيام التالية، لكن صاحب الهاتف كان يتحدث الإنجليزية بصعوبة شديدة وفى مرات قال إنه لا يعرف شيئا عن ديار ومرات أخرى يطلب المال دون أن يسمح لنا بالتحدث إلى ديار".
عائلة الصبى لجأت إلى منظمة الصليب الأحمر البريطانية، وقامت المنظمة بالاتصال برقم الهاتف المجهول، حيث أخبرهم صاحب الهاتف أن "ديار" لديه، لكن ما أن علم أن من يحدثه مسئول من الصليب الأحمر فإنه أنكر وقال إنه مات ويوجد بالثلاجة لدى المستشفى العسكرى.
ويقول الأب إنهم كرروا الاتصالات من أكثر من مكان مع الشخص، الذى يعتقد أنه يحتجز ديار، وفى كل مرة كان يطلب المال ولا يفهمون منه غير ذلك.
إبتزاز
ويضيف الأب أنه أحيانا ما يتلقى اتصالات هاتفية لابتزازه، كما أن أحد معارفه من سوريا أكد له أنه شاهد "ديار" فى مبنى للاجئين بكنيسة فى اليونان وأنه حكى معه وطلب أن نعمل له توكيلا بالتصرف نيابة عنا حتى يمكنه استلام "ديار" وبعد أن قاموا بعمل التوكيل باسم شخص يدعى "عبد السلام"، اختفى وأغلق هاتفه ولم يعد بإمكانهم التواصل مع أى طرف.
أزمة "ديار" ليست الوحيدة للأطفال اللاجئين المختفين بأوروبا، فالآلاف غالبا ما وقعوا ضحايا لعصابات إجرامية استغلوهم لأجل المال، وحذر دونالد براين، أحد مسئولى اليوروبول، فى تصريحات صحفية مطلع الشهر الجارى، من استهداف أولئك الأطفال من قبل "بنية تحتية إجرامية أوروبية"، مشيرا إلى أن 5 آلاف طفل اختفوا فى إيطاليا وحدها، كما لم يُستدل على مصير ألف آخرين فى السويد.
العدد يتجاوز 10 آلاف كثيرا
ويقول على عيسو، وهو صحفى سورى ولاجئ بألمانيا، فى حديثه عبر الهاتف لـ "انفراد"، أن عدد الأطفال المفقودين يفوق كثيرا الـ10000 فهذا الرقم يتعلق بمن وصلوا إلى اليونان وتم تسجيلهم، لكن هناك أطفال كثيرة غير مسجلة.
ويضيف أن السوريين لم يعودوا قادرين على العيش سواء فى سوريا أو دول الجوار لأن الحياة هناك شديدة القسوة، ومن ثم يضطرون للاستغناء عن أحد أطفالهم لإرساله إلى أوروبا أملا فى الحصول "لم الشمل" فيما بعد، وأشار إلى أن العائلة تكتفى بإرسال أحد أفرادها بسبب ارتفاع تكاليف العبور من خلال عصابات التهريب.
وقال عيسو إن الطفل غالبا ما يتم إرساله مع عوائل أخرى، أصدقاء أو أقارب، غير أنه فى حالات أخرى تلجأ العائلات لإرسال أطفالها مع المهرب، ويوضح أنه بالإضافة إلى الغرق فإن فقدان الأطفال غالبا ما يختفون فى دول العبور، حيث تستغل عصابات التهريب محنتهم، وأنه بعد قطع البحر وصولا إلى اليونان هناك مهربون مسئولون عن القيام بعمليات تهريب البشر أو الاتجار بهم.
ورغم أن جميع الدول الأوروبية موقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل وواجب توفير السلامة والرفاهية للأطفال على الأراضى الأوروبية، لكن محنة أولئك الصغار، الذين تشردوا بسبب الصراع فى بلدانهم، هو جزء لا يتجزأ من عجز القارة الأوروبية عن استيعاب موجة تاريخية من اللاجئين.
الهجرة غير الشرعية تزيد الأزمة
وأشار أحمد بدوى، الناشط بالمنظمة المصرية للاجئين، إلى أن الإشكالية تتمثل فى توافد أعداد اللاجئين لأوروبا بطريقة غير نظامية وغير شرعية، لذا لا توجد إحصائية نعرف بها أعداد المفقودين.
وأضاف أنه يعتقد أن تقرير اليوروبول يعتمد على بلاغات أهالى الأطفال، لذا فإن العدد الحقيقى للأطفال المختفين أكبر كثيرا مما ذكرته المنظمة الأوروبية، مشيرا إلى أنه بالإضافة إلى من اختفوا قبل وصولهم أوروبا، فإن عصابات التهريب والاتجار بالبشر على الحدود بين دول العبور التى يكون هدفها الرئيسى المال لذا أحيانا تستغل الأطفال فى أعمال مشبوهة.
وأوضح بدوى أن وضع اللاجئين فى مصر مختلف لأن مصر موقعة على اتفاقية "الدخول الاعتبارى" التى تلزمها بعدم إعادة اللاجئ سواء دخل البلاد بطريقة شرعية أو غير شرعية، فبعد دخول اللاجئ مصر يسجل نفسه لدى مكتب المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة.
وأشار إلى أن المنظمة المصرية للاجئين تقدمت باقتراح للاتحاد الأوروبى لتنظيم عملية هجرة اللاجئين من خلال تسهيل الطريقة الشرعية لنقلهم إلى أوروبا وبذلك يمكن التصدى لعصابات الجريمة المنظمة وتقليل الهجرة غير الشرعية.
وحذر مارى بيير بوارييه، المنسق الخاص بأزمة اللاجئين والمهاجرين فى اليونيسيف، من الآثار المترتبة على الزيادة فى نسبة الأطفال والنساء المتسللين إلى أوروبا، حيث يعنى هذا مزيد من الأخطار فى البحر، خاصة فى فصل الشتاء، كما أن المزيد يحتاجون الحماية على الأرض".
وبحسب مقال افتتاحى لصحيفة نيويورك تايمز فإنه يعتقد أن العديد من الأطفال فروا من مراكز الاعتقال الأوروبية حيث لا يشعرون بالأمان وكثيرا ما يتم حرمانهم من حقوقهم، وتشير إلى أن بعض أولئك فتيان فى سن المراهقة، كثيرون منهم من سوريا وأفغانستان، وبمجرد خروجهم إلى الشارع يكونون فريسة سهلة لتجار المخدرات والقوادين أو حلقات السرقة، فيما أن الأطفال الأصغر سنا والمراهقات يكونون عرضة لخطر كبير من الاعتداء الجنسى وغيره.