وصل مصطفى النحاس باشا، رئيس الحكومة الوفدية، إلى باريس صباح 15 يوليو، مثل هذا اليوم 1950، وبعد استقباله من رجال السفارة المصرية بحوالى نصف الساعة، توجه الجميع إلى مسجد باريس «لتوديع جثمان» إسماعيل صدقى باشا فى المستشفى الأمريكى، وكانمصطفى الحفناوىمصطفى الحفناوى ضمن رجال السفارة، حسبما يكشف فى مذكراته «مصطفى الحفناوى وخلفيات تأميم قناة السويس».
كان «الحفناوى» فى باريس للانتهاء من إعداد رسالة الدكتوراة حول «مشكلات قناة السويس المعاصرة» لتقديمها إلى «جامعة باريس»، وكان فى نفس الوقت يعمل مستشارا صحفيا بالسفارة المصرية، بعد أن طلب من وزير الخارجية بحكومة الوفد الدكتور محمد صلاح الدين، توفير صيغة شرعية تمكنه من الدخول إلى مبنى شركة قناة السويس فى باريس للاطلاع على الوثائق الخاصة بالقناة.
يكشف «الحفناوى» أن صلاح الدين احتفظ بسره، واستجاب لمطلبه وعينه مستشارا صحفيا فى السفارة، وترك مهنة المحاماة فى مصر رغم أرباحها الطائلة، واستطاع بالفعل دخول مقر شركة القناة، والوصول إلى الوثائق السرية، وكانت مناسبة زيارة «النحاس» إلى باريس إحدى المناسبات التى قادته إلى كشف أسرار خطيرة.
يتذكر «الحفناوى» أنه فى يوم زيارة النحاس، غصت فنادق باريس بكبار من مصر وأثريائها، وأنه علم من وزارة الخارجية الفرنسية، أن وزير التجارة المصرى محمود سليمان غنام، ومعه وكيل وزارته، سيصل إلى باريس، وقررت «الخارجية الفرنسية» استقباله رسميا، وأوفدت مندوبا عنها فى المطار، ويؤكد «الحفناوى» أنها لم تجر عادتها على مثل هذا التصرف فى معاملة الوزراء المصريين، لكن رحلة غنام كانت من أجل التباحث فى عطاء لإنشاء دار صك النقود المصرية، وكانت حكومة فرنسا تواقة للظفر بهذه العملية.
يكشف «الحفناوى» أنه كانت تربطه مع غنام علاقة صداقة وزمالة فى المحاماة، ويوضح: «كان بحكم منصبه المشرف على علاقة شركة قناة السويس بحكومة مصر، فقدرت أن الشركة لالابد أن تستضيفه، وهذه هى المناسبة التى ما ينبغى بحال أن تفوتنى، ولازمته ولازمنى طوال مقامه فى باريس ثلاثة أيام».. يتذكر:«فوجئت بدعوة من شركة قناة السويس بتوقيع رئيسها «شارل رو» لتناول الشاى مع الوزير المصرى بمبنى الشركة، وتصدر غنام المائدة بجوار شارل، ومعه كبار رجالها».. يصف الحفناوى أجواء الجلسة قائلا: «جرى الحديث فى جو فاتر، لأن غنام لا يتكلم حرفا من الفرنسية ولا يفهمها، واضطر شارل الحديث بالإنجليزية، وللفرنسيين فى نطق هذه اللغة لهجة خاصة بهم، وحدث أثناء الحديث لبس أضفى على الحفل صمتا عميقا وبرودا شديدا، ذلك أن الموضوع الذى اختاره «شارل رو» كان الحرب فى الهند الصينية، وكان أهم حديث للمجالس فى فرنسا، وظن غنام سهوا منه، أن كلمة «هند صينية» باللغة الإنجليزية ليست اسم بلاد، وإنما تعنى ميثاقا سياسيا بين الهند والصين، ووجه سؤالا بهذا المعنى إلى المتحدث رئيس شركة قناة السويس قائلا: «هل يوجد ميثاق بين الهند والصين؟.. تساءل المتحدث عن سبب هذا السؤال الغريب، فقال غنام: أنت تقول الهند الصينية، فهل هذا تحالف أم ميثاق بين الهند والصين».
يتذكر الحفناوى: «زلة اللسان أو التسرع فى السؤال أحدث وجوما وفتورا».. يؤكد: «انتهزت الفرصة وتدخلت لإنقاذ الموقف، فتحدثت بالفرنسية الفصحى فى موضوع آخر، موضوع قناة السويس، ليس من الزاوية السياسية بل من حيث المشروعات والعتاد والمهمات، فسألت عن القناة الفرعية التى نصت عليها اتفاقية الشراكة مع الحكومة سنة 1949، التى سميت «قناة فاروق» رياء ونفاقا من المستعمر، وتحدثت عن مشروعات التحسين والتعميق منذ سنة 1905، وعن قوة وعدد الكراكات المملوكة للشركة، والأعمال التى تسند إلى مقاولى الباطن، وعن الجرار المسمى «إدجار بونيه» مثلا، وقوة آلاته».
يعلق «الحفناوى» أنه أراد بهذا الحديث إلقاء الطعم للحصول على الصيد.. يؤكد: «كانت الخطة ناجحة مائة فى المائة.. فرغنا من مائدة الشاى، وهم وزير التجارة المصرى ووكيله بالانصراف فاستلمهما رئيس مجلس إدارة الشركة، واستأذن فى أن يجتمع بى على انفراد فى مكتبه دقائق، وما إن دخلت على حجرة مكتبه إلا وسلط على شخصى نظرات حادة وغاضبة.. لم يأذن لى بالجلوس وسألنى، لماذا أنا مهتم اهتماما خاصا بقناة السويس؟ وأردف الثعلب العجوز بقوله: حديثك أثناء تناول الشاى يبين أنك يا هذا تعرف عن قناة السويس معلومات لم يحاول كائن من كان من مواطنيك بمن فيهم الحكام والوزراء، أن يعرفوها أو يقرأ أيهم شيئا عنها، فماذا تخفى يا سيادة المستشار الصحفى؟