دق جرس التليفون فى مكتب وزير الأوقاف، الأستاذ على عبدالرازق، يوم 4 أغسطس، مثل هذا اليوم 1948.. كان المتحدث نجيب سالم ناظر الخاصة الملكية، وفقا للكاتب الصحفى أحمد بهاء الدين فى كتابه «فاروق ملكا»، مضيفا: «قال سالم إن نطقا ملكيا ساميا «من الملك فاروق» بضم وقف إسماعيل إلى الأوقاف التى تديرها الخاصة الملكية».
كان «النطق السامى» الذى يتعلق بوقف إسماعيل باشا جد فاروق وخديو مصر الأسبق، مقداره نحو خمسة ملايين جنيه، وفقا للدكتورة لطيفة سالم فى كتابها «فاروق وسقوط الملكية فى مصر»، موضحة أنه كان يبلغ حوالى عشرة آلاف فدان غير العقارات، وكان مخصصا لبناء وعمارة وإقامة الشعائر الإسلامية بالمساجد، وتؤكد أن هذا التصرف كان تأكيدا على عشق فاروق للثروة بدرجة فاقت كل الحدود. وتكشف:«ورث عن أبيه «الملك فؤاد» حب الثروة وتنميتها، إذ استطاع الأب فى سنوات حكمه «1919 - 1936» أن يكون ثروة بلغت 94 ألفا و300 فدان «كان مديونا قبل حكمه»، وخص ابنه «فاروق» منها 15 ألفا و400 فدان، عدا الأموال السائلة، وفى خلال فترة حكم فاروق «1936-1952» أوصل ممتلكاته الزراعية إلى 48 ألف فدان، عدا أراضى الأوقاف التى بلغت 93 ألف فدان، وتميزت بالخصوبة، وشكلت خمس أراضى مصر الزراعية.
كيف زاد فاروق ثروته العقارية عن الحد الذى ورثه عن أبيه؟ وهل تم بطريقة مشروعة؟ يجيب «بهاء الدين»:
«لم تبلغ ثروة الملك السابق هذا المبلغ الرهيب بوسائل شريفة، أما الوسائل غير الشريفة فكثيرة.. أحيانا كان الملك يعجب بمساحة من الأراضى مملوكة لأفراد من رعاياه، وتبدأ الخاصة فى مناوراتها التى تنتهى بإرغام المالك على بيع أرضه بسعر بخس، وأحيانا يضع يده على مساحات هائلة من الأراضى غير المزروعة، ويستصلحها بأيد مجانية من المساجين، ومشروعات مائية من ميزانية الدولة، كما فعل فى الأرض التى استولى عليها بالقرب من مرسى مطروح، وأحيانا يشترى بأسعار بخسة جدا أرضا مملوكة لقُصر موضوعين تحت وصايته كأبناء الأمراء المتوفين».
تذكر «سالم» أن أراضى الأوقاف مثلت منفذا جيدا لإضافة آلاف الأفدنة لممتلكات فاروق الخاصة، وبمجرد المناداة له ملكا «29 يوليو 1937»، صدر القانون بإعلان سن رشده الذى مكنه من التنظر على أوقاف شملت وقف إبراهيم باشا الكبير المشهور بـ«وقف القصر» وخمسة أوقاف للخديو إسماعيل، ووقف نزير أغا، ووقف قولة.
يؤكد «بهاء الدين»: «استيلاؤه على أراضى الوقف بعشرات الألوف من الأفدنة، كان يتم بعمليات نصب كبرى، واغتصاب حقيقى من الدولة، وفى سبيل حصوله على وقف كان لا يجد غضاضة فى الإطاحة بوزير أو بوزارة بأسرها».. يستشهد «بهاء» على ما يذكره بما حدث يوم 4 أغسطس 1948، يؤكد: إن الوزير على عبدالرازق بهت عندما سمع من نجيب سالم أن الملك أصدر نطقه السامى بضم وقف إسماعيل، فرد عليه قائلا:«أريد كتابا رسميا بذلك وسترد الوزارة عليه»،
أرسلت الخاصة الملكية كتابا تقول فيه: «بما أنه قد صدر النطق السامى بنقل إدارة هذا الوقف إلى ديوان الأوقاف الخصوصية الملكية، فأرجو التنبيه باتخاذ الإجراءات اللازمة لتسليم أعيان هذا الوقف وما يتعلق به من مستندات ونقود وغير ذلك».
ردت وزارة الأوقاف تقول: إن إيراد هذا الوقف مرصود على بعض الأغراض المحددة، وأن باقى الإيراد يدخل فى ميزانية وزارة الأوقاف التى لا بد منها لمواجهة واجبات الوزارة.. يذكر بهاء:«لم يعجب الخاصة الملكية هذا الرد، فأرسلت تكرر أن «النطق السامى» قد صدر بذلك، وتبودلت بين الطرفين خطابات عديدة، وتطورت المسألة إلى أزمة، وفاحت رائحتها حتى وصلت إلى الصحف، وبدأت الجرائد تلمح إلى القصة بوسائل شتى».
يؤكد «بهاء» أن النقراشى باشا رئيس الوزراء استدعى على عبدالرازق، وأبلغه بأن الملك قال له بالحرف الواحد:«وزير الأوقاف بتاعكم مش عارف يتعاون مع ناظر الخاصة»، وفهم عبدالرازق معنى هذا «النطق السامى» الجديد، فكتب استقالته وانصرف «لم يقبلها النقراشى»، ولكن القصر لم يشأ أن يخرج الوزير ويفتضح الموقف، فأستأنف المفاوضات، حتى اتفق على أن تدير الخاصة الوقف بشرط أن تتعهد كتابة بإرسال ربع الوقف إلى وزارة الأوقاف، ونفذت الخاصة تعهدها مرة واحدة، فأرسلت إلى الوزارة شيكا بمبلغ 40 ألف جنيه، نشرت الصحف أنه منحة ملكية كريمة من الجيب الخاص، وارتفعت أكف المشايخ والعلماء بالدعاء، وبعدها لم ترسل «الخاصة» مليما واحدا.