صناعة الوعى تحتضر.. كورونا أوقف ماكينات طباعة الكتب بمصر والعالم العربى.. دور النشر تتعرض لموجات متصاعدة من التقشف والإفلاس.. الكتاب أصبح يتيما وفى الأفق كارثة.. والحل يكمن فى تدخل الدول بقوة

أنت لا تموت حينما تموت فحسب، لكنك ربما تموت أثناء توقع الموت، تموت حينما تستسلم للاحتضار، تموت حينما ترى الدماء تتجمد فى العروق ولا تحرك ساكنا، تموت من اليأس أحيانا حينما ترى من حولك لا يقدمون يد المساعدة، ولا يبادرون بإظهار الاهتمام، ولا يحاولون إغاثتك بما تيسر من اهتمام، هذا هو وضع الكتاب العربى الآن، دور نشر أغلقت، وأخرى خفضت عمالتها وقلصت مقراتها، المطابع توقفت، معارض الكتب فى العالم العربى غلقت أبوابها، الجميع تأثر بتداعيات انتشار جائحة كورونا، لكن الكتاب العربى كان المتأثر الأكبر فقد وصل حال النشر إلى مرحلة الشلل التام، ولا بد لعلاج هذه الأزمة استنفار جميع الحواس لإدراك حجم الكارثة، فتوقف الكتاب يعنى توقف نمو المجتمعات، يعنى توقف العقول، يعنى توقف الوعى، يعنى توقف إنتاج الوعى، ويعنى انتشار التطرف والثقافة السمعية السطحية وانتشار الخرافة والغيبيات، بما يجعلنا غير قادرين على مواجهة الحياة بشكلها الحالى أو المستقبلي. كان وضع النشر ضبابيا قبل انتشار جائحة، فأصبح معتما بعدها، عانت صناعة النشر من مشكلات عديدة قبل 2020 وقد رصد اتحاد الناشرين العرب أهم أسباب هذا الوضع المتدهور فى ضعف الاهتمام بتنمية عادة القراءة لدى الأفراد منذ الصغر وارتفاع نسبة الأميّة، وعزوف المتعلمين والمثقفين عن القراءة، وتفشى ظاهرة التزوير والاعتداء على حقوق الملكية الفكرية للمؤلف والناشر، وارتفاع تكاليف الشحن وتراجع إنشاء المكتبات التجارية وقلّة المكتبات العامة مقارنة بعدد السكان، وتواضع وتراجع الميزانيات المخصصة لشراء الكتب فى المكتبات المدرسية والجامعية، وعدم إتاحة الفرصة أمام المؤلف والناشر فى نشر وطبع الكتاب المدرسى، والذى يمثّل الركيزة الأساسية فى النهوض بصناعة النشر، كما هو معمول به فى البلدان المتقدمة، وعدم الدراية الكاملة لدى الفرد وأجهزة الدولة المنوط بها حماية الملكية، فى مدى خطورة الاعتداء على الملكية الفكرية، وأنها تمثل قتلًا للإبداع والفكر وضياعًا للحقوق بين الأفراد. كما أسهمت ثورات الربيع العربى فى إخراج العراق وسوريا واليمن وليبيا وتونس من سوق الكتاب العربى، وأثرت بشكل كبير فى تراجع صناعة النشـر فى العالم العربى، عدم وجود قاعدة بيانات عن صناعة النشر العربى، وعدم وجود دراسات عن الميول القرائية فى العالم العربى، وقلة وجود مشاريع ثقافية قومية تحفز وتشجع على القراءة، وقلة منافذ التوزيع، وعدم اهتمام الحكومات العربية بالمكتبات العامة والمدرسية والجامعية والمراكز الثقافى، وعدم وجود هيئات أو مؤسسات تقدم المؤلفين الجدد بعد تحكيم إنتاجهم، بحيث يضمن الناشر الحصول على مواد علمية صالحة للنشـر، لتقليل نسبة مخاطر النشر، كما لا توجد ميزانيات مخصصة فى جهات أو مؤسسات أو وزارات تشجع الناشرين على نشر أعمال المؤلفين الجدد، وهذا كله فى جانب وتفشـى ظاهرة التزوير ورقيًّا وإلكترونيًّا، مما يسبب للناشر والمؤلف خسائر كبيرة، وربما خرج الاثنان من مجال النشر، مما أدى إلى تدنى العائد المادى للناشر مقابل الوقت والجهد والمال الذى يستثمره فى مجال النشـر، وبالتالى تدنى الإمكانات المالية لمعظم الناشرين العرب بحيث لا تساعدهم فى التوسع فى مجال النشـر، ليصبح ناشرًا عالميًّا، وتكدس مخازن معظم الناشرين بالكتب، لأنهم يطبعون، ثم ينتظرون نتائج التوزيع، وهذا من أكبر العوامل التى تُحدّ من توسع الناشرين فى مجالهم. كانت هذه أهم مشكلات النشر فى العالم العربى قبل تفشى جائحة كورونا، وهى مشكلات أدت إلى تقلص حركة النشر وضعف الإقبال على القراءة بشكل عام، ناهيك عن كون الكتابة فى حد ذاتها كانت بالنسبة للكثيرين مغامرة غير مضمونة، فمعروف أن الكتابة فى العالم العربى لا تكفى لجنى ما يقيم الظهر أو ينفق على الكاتب فما بالك بأسرته، والنتيجة عزوف آلاف المواهب عن الكتابة والتأليف أو على الأقل فإن عدم تفرغهم للكتابة أدى إلى قلة إنتاجهم، وهو ما دفع الحالة الإبداعية العربية بشكل عام إلى التدنى، وطفت على السطح طائفة من أنصاف الموهوبين الذين استثمروا علاقاتهم ويسر حالهم فى إنتاج عشرات الكتب والدفع بها إلى المطابع ودور النشر، ليصنعوا اسما زائفا ويروجوا لكتابة هابطة، وللأسف فقد يعتقد بعض قليلى الخبرة بالإبداع والآداب أن هذا هو النموذج الأسمى للإبداع وبالتالى يتدهور المستوى الإبداعى أكثر فأكثر. كانت هذه هى أهم مشكلات "الوعي" قبل انتشار جائحة كورونا، وهى مشكلات أدت إلى الاحتضار، أما بعد كورونا فأصبحت الأوضاع كارثية بحق، وأصبح الوعى العربى فى حالة يرثى لها، غير أنه – للأسف – لا ينتظر من يرثيه، وقد رصد اتحاد الناشرين العرب أهم تداعيات أزمة كورونا على حال النشر العربى، وكانت النتائج مؤلمة فقد أظهر الاستبيان أن مبيعات دور النشر تراجعت بنسبة 74%، أما إنتاج دور النشر من الكتب فقد تراجع بنسبة 50% بالنسبة لكتب الكبار، وتراجع 35% بالنسبة لكتب الأطفال، بما يعنى أن تأثر كتب الأطفال بجائحة كورونا كان أقل من تأثر كتب الكبار، كما أظهر الاستبيان أن نسبة 75% من دور النشر أوقفت التعامل مع المؤلفين، وأوقف ما بين (50% إلى 67%) التعامل مع المصممين والرسامين والمراجعين اللغويين والمترجمين وتجار الورق، واستغنت دور النشر عن نسبة لا تقل عن 34% من حجم العاملين بها. هذه هى أهم الأرقام الصادرة عن اتحاد الناشرين العرب، وبحسب نفس الاستبيان فقد كان لتوقف معارض الكتب فى العالم العربى أكبر الأثر فى هذا الوضع المأساوى، حيث أورد الاستبيان أن 53% من مبيعات دور النشر كانت بفضل المعارض العربية المختلفة، وقد اقترح الاستبيان حزمة إجراءات عاجلة للحد من آثار هذه الجائحة على مستقبل صناعة النشر، أهمها إعفاء دور النشر من الضرائب والمساعدة فى الإيجارات والإعفاء من رسوم الترخيص ودعم شراء الورق، ومنح دور النشر قروضا ميسرة، ودعم الناشر وشراء المنتجات المتميزة من جانب الحكومة، وإنشاء صندوق تمويل المشروعات وعمل اتفاقيات مع شركات الشحن لتقليل نفقات دور النشر، وتقريب الفترات بين المعارض بحسث لا تزيد عن شهرين فحسب. ولم يكتف اتحاد الناشرين العرب بتلك البيانات العاجلة لكنه أرسل استغاثة عاجلة فى صورة رسالة مفتوحة لجميع رؤساء وملوك وأمراء العالم العربى، موقعة باسم السيد محمد رشاد رئيس اتحاد الناضرين العرب، وطالبهم فيها تضمين قطاع صناعة النشر ضمن حزم الدعم المختلفة التى أقرتها الكثير من الدول، وتخصيص مبالغ مالية لشراء الكتب من الناشرين من خلال وزارات التربية والتعليم والمكتبات المدرسية ووزراء الثقافة والإعلام والرياضة والجامعات الحكومية. أننى أقف هنا مع موقف اتحاد الناشرين العرب تماما لأنى أدرك أن تلك الأزمة الطاحنة التى تمر بها صناعة النشر لم يشهدها القطاع الثقافى من قبل، وعلى الأقل طوال فترة اشتغالى به التى تصل إلى 25 عاما، وإحقاقا للحق فقد استجابت بعض الدول وتفاعلت مع هذه الأزمة بشكل إيجابى، أبرزها دولة الإمارات العربية المتحدة التى سارعت بدعم الناشر الإماراتى ودعمت تحويل ونشر 100 كتاب إلكترونى وبحثت تقليل تكاليف مشاركة الناشرين فى معارض الكتاب وتقليص رسوم وضرائب التجارة والطباعة وتجديد الرخص التجارية. هنا لا يجب أن نغفل أن جزء من الأزمة يتحملها قطاع النشر نفسه لأنه لم يطور فى آلياته ولم يستجب مبكرا للتغيرات التى حدثت فى الوعى والذوق القرائى أو آليات العرض والتلقى، فباستثناء حرص بعض دور النشر على إنشاء صفحة على مواقع التواصل الاجتماعى للترويج لأغلفة كتبها، لم يراع قطاع النشر إضافة بعضا من الجاذبية على أعماله ليجذب شرائح قرائية جديدة من عالم الصورة إلى عالم الكلمة، كما لا يمكننا أن نغفل الكثير من السلوكيات الشائنة التى يتبعها بعض الناشرين والتى لم تجد من يتصدى لها أو يسهم فى محاصراتها، ناهيك عن إهمال غالبية دور النشر لمؤلفيها وعدم حرصها على مكافأتهم ماديا أو معنويا، لكن هذا لا يمنعنا من الوقوف إلى جانب قطاع النشر فى هذه الأزمة الطاحنة التى تكاد أن تطيح بعالم النشر بأكمله، على أمل أن تعلمنا هذه الأزمة أن يقوم كل فرد بدوره وتقوم كل مؤسسة بواجبها.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;