احتفت الحياة الأدبية العربية فى مرحلة ما بعد منتصف ستينيات القرن الماضى بالإنتاج الوفير لشعراء جدد من فلسطين المحتلة، مثل محمود درويش وسميح القاسم.. يذكر الناقد رجاء النقاش فى كتابه «محمود درويش شاعر الأرض المحتلة»: «لاحظ الكثيرون أنه منذ 1970 والحياة الأدبية تتلقى قصائد الأرض المحتلة بوفرة غير مألوفة، ومن خلال هذه الوفرة الشعرية لا يحتفظ الفن بمستواه الجيد على الدوام».
يعيد «النقاش» عدم ثبات المستوى الجيد لهذا الإبداع الشعرى إلى كثرته، لكن المفارقة أن الاحتفاء به كان كبيرا، مما جعل الشاعر محمود درويش يكتب مقاله الشهير«أنقذونا من هذا الحب القاسى»، وكان خطابا مفتوحا إلى النقاد والأدباء العرب، ونشرته مجلة «الجديد» الأسبوعية العربية التى يصدرها الحزب الشيوعى الإسرائيلى «راكاح».
كان «درويش» المولود عام 1941 يعيش فى فلسطين المحتلة وقتئذ قبل أن يخرج منها عام 1970 إلى موسكو للدراسة، ومنها إلى مصر فى فبراير 1971، وأثناء حياته فى فلسطين مارس نضاله من خلال «راكاح» الذى كان يجمع فى عضويته بين العرب واليهود، وتولى رئاسة تحرير مجلته «الجديد».
يذكر«النقاش» أنه بعد الهزة العنيفة التى أحدثتها هزيمة 5 يونيو 1967، أصبح المثقفون العرب متلهفين على فهم هذا العدو المجهول فهما كاملا، ومن خلال اكتشاف العدو ومحاولة فهمه احتلت الأقلية العربية داخل إسرائيل بظروفها ومشاكلها ونشاطها الفكرى والعملى مكانا بارزا فى الدراسات التى ظهرت قبيل عدوان 5 يونيو وبعده، وهنا بدأنا نعرف بعض التفاصيل عن شعراء المقاومة داخل الأرض المحتلة وعلى رأسهم، محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وراشد حسين وسالم جبران وغيرهم.
تحمست الحركة الأدبية العربية فى تقييم هذا الشعر على حساب الجودة أحيانا، فأطلق درويش نداءه «أنقذونا من هذا الحب القاسى»، فى «الجديد» ثم أعادت مجلة «الطليع”» اليسارية نشره، فى عدد الأول من سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1969، وكانت تصدر شهريا عن مؤسسة الأهرام
عبرت «الطليعة» عن أهمية المقال بقولها فى تقديمها له، أن إعادة نشره استثناء من تقاليدها، وكتبت فى المقدمة: «يواجه الشاعر والمناضل محمود درويش بصراحة عملية وشجاعة أدبية إلى عدد من النقاد والأدباء العرب، الذين درجوا على تقييم أعماله وأعمال زملائه فى انعزال عن حركة الأدب والفن فى الوطن العربى من ناحية، والنضال والعربى الشامل من ناحة أخري، وهو وإن كان يشكر من أعماقه الاهتمام العربى بأعمالهم، إلا أنه يوجه نقدا مباشرا إلى أولئك الذين يقدمون هذه الأعمال وكأنها «صاعقة انفجرت فجأة» ليس لها ماض، أو تراث عميق الجذور، ويسطحون الأمر كله عندما يضفون،– بدوافع الإثارة وغيرها، أوصافا مثالية غريبة وأحيانا مختلفة، تضر بتطور الحركة الأدبية فى اتصالها بواقع الحياة والنضال العربي، ويلح درويش على إدانة الاتجاه غير العلمى الذى يبالغ فى تقدير أشعاره وأشعار زملائه حتى ليجرى عمليات ساذجة بينها وبين مجموع الشعر العربى.
كان أخطر ما قاله «درويش» فى ندائه: «إن الناقد لا يزال مشغولا بالفرح الذى يملأه نتيجة اكتشاف هذا الشعر دفعة واحدة، ولا يزال العطف على الشباب الذين يكتبون الشعر فى ظروفهم السياسية الخاصة هو المعيار الأول فى عملية نقد شعرنا، وقد يكون لهذا الدافع مايبرره فى فترة ما، ولكن امتداد هذه الفترة محاط بالمحاذير التى تخلق نتائج ضارة قد تتطور إلى مايشبه الخداع..خداع القراء العرب، وخداع شعرائنا أنفسهم الذى يواجه بعضهم خطر الإحساس بالكمال، ولذلك فإن الضرورة تلح على وضع حركة الشعر فى بلادنا فى مكانها الصحيح، والضرورة تلح بادئ ذى بدء على معاملة هذا الشعر على أنه شعر بالتخفيف من تسليط الضوء على شخصيات الشباب الذين يكتبونه».
أحدث المقال صدى لم يتوقعه درويش، حسب حواره لمجلة «الآداب» اللبنانية العدد التاسع، 1970، مؤكدا: «كنت أحاول مخلصا حماية شعرنا من مظاهر الحب الحماسى، لم يكن ندائى المذكور موجها إلى النقاد العرب وحدهم، كان موجها أيضا إلى الذين يكتبون الشعر فى بلادنا، وربما كان بالإضافة إلى ذلك نوعا من الحوار الداخلى مع نفسى»، وعن النتيجة قال: «بعض زملائى أصيب بالدهشة، وقال البعض: كيف ترفض هدية ثمينة بمثل هذه الفظاظة، ولاحظت من ردود الفعل لدى الأوساط الأدبية العربية التى أتيحت لى فرصة الاطلاع عليها وهى قليلة أن هناك أساسا قويا للأفكار والمبررات التى قام عليها ندائى، وأن شيئا يشبه قدسية القضية الماء فى أفواه الذين كانوا يوشكون على إبداء آرائهم بمعركة الحب الدائرة، ولكنهم يخشون أن تكون أصواتهم نشازا».