المكان: منطقة كفر سعد بالقليوبية على أطراف مدينة بنها، ووسط كتل خرسانية يمتد ارتفاع العمارة بها لأكثر من عشرة أدوار، مبنية على أراضٍ زراعية، وكثير منها على أراضى حرم نهر النيل.
الزمان: صباح السبت 12 سبتمبر
الحدث: رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى يعقد لقاءً مفتوحاً مع رؤساء تحرير الصحف والكتاب والإعلاميين، بحضور وزراء الدفاع والداخلية والإسكان والتنمية المحلية والزراعة، لاستعرض قانون التصالح بمخالفات البناء ووقف التعدى على الأراضى الزراعية .
المشهد فى مجمله معبر عن المأساة التى تعيشها الدولة المصرية، وتهدد مستقبلنا جميعاً، فالدولة تواجه منذ سنوات "سرطان" ينخر فى جسد الدولة اسمه البناء المخالف والعشوائى والتعدى على الأراضى الزراعية، والذى نتج عنه تحويل 90 ألف فدان زراعى من أخصب الأراضى إلى كتل خرسانية متراصة بجوار بعضها البعض، حدث ذلك كله فى تسع سنوات، من 2011 وحتى اليوم، وهذا الرقم مرشح للزيادة بشكل يومى، إذا لم تتصدى الدولة لهذا السرطان الذى سيصل بنا فى غضون سنوات قليلة إلى التهام الأراضى الزراعية بأكملها، ويزيد من القبح الذى نراه يومياً ينمو على أطراف المدن والقرى، وبشكل متناثر.
فى هذا اللقاء كانت الدولة، ممثلة فى الحكومة، حاسمة وحازمة فى السير إلى آخر الطريق، لمواجهة هذا الملف شديد التعقيد والحساسية، وإصلاح ووضع حد للأخطار المتوارثة التى لا تسأل عنها الحكومة الحالية، لإنهاء أزمة بدأت منذ سنوات وزادت وتيرتها فى أعقاب 25 يناير 2011، ولا يمكن غض الطرف عنها، فلنا أن نتخيل أن عدد العزب والتوابع فى 2011 كان 27 ألفاً، وصل اليوم إلى 32 ألفاً، ما يعنى أنه خلال 9 سنوات أصبح لدينا خمسة آلاف عزبة وتابع جديد، وهو رقم مرشح للزيادة يومياً، إذا غضت الحكومة الطرف عن هذا الملف، كما فعلت الأنظمة والحكومات السابقة.
وربما كان السؤال من الحضور فى هذا اللقاء، لماذا القليوبية؟.. والرد بأن هذه المحافظة وهذا المكان الذى تواجدنا فيه هو خير جواب على السؤال الذى يتردد حالياً، وهو لماذا تصر الدولة على السير فى إنهاء ملف مخالفات البناء، فالمحافظة شهدت منذ 2011 وحتى اليوم 175 ألفاً و496 حالة تعدٍ على الأراضى الزراعية، بإجمالى 6 آلاف و627 فداناً من أجود الأراضى الزراعية الخصبة، وهو ما أدى إلى تناقص أراضى المحافظة الزراعية من 167 ألفاً و208 أفدنة، إلى 160 ألفاً و580 فداناً، ومن بين هذه الأرقام تقف مدينة الخصوص كمثال صارخ على هذا العوار، فهذه المدينة كانت قبل سنوات "قرية" نشأت على أراضٍ زراعية، ثم زادت تمدداتها فتحولت إلى مدينة عشوائية بالكامل، وغابة من الكتل الخرسانية بارتفاعات هائلة تفتقد لكل عوامل الأمان، فلا شوارع منظمة ولا خدمات يمكن تقديمها لساكنى هذه المدينة، وكل ذلك لسبب واحد أن أهالينا فى الخصوص استمروا فى البناء العشوائى طيلة السنوات الماضية، دون أن يضع أحد منهم فى حسبانه خطورة ما يحدث، فوصلنا إلى الشكل الحالى للمدينة، وهو عبارة عن أبراج متراصة بجوار بعضها البعض، وشوارع لا يزيد عرض الواحد فيها فى أحسن الأحوال عن 5 أمتار، وهو وضع لا يمكن معه توصيل الخدمات لهذه المناطق.
القليوبية مثلها مثل باقى محافظات مصر، فالعشوائيات والبناء المخالف والتعدى على الأراضى الزراعية هو الخطر الذى يهددنا جميعاً، وسيكتب للدولة المصرية أنها استطاعت أن تقف فى وجه هذا الخطر، دون أى اعتبارات أخرى، فعلى الأرض كان نمو هذا العشوائيات مرجعه الأساسى هو ترضيات سياسية وشعبية، لكن لأن رئيس الدولة قالها منذ البداية، إنه لن يتهاون فى مواجهة المخاطر التى تهدد الدولة، أيا كان تأثيرها على شعبيته، لذلك لم يكن مستغرباً أن تقتحم الدولة هذا الملف لتحقيق الهدف الأساسى، وهو القضاء على الملف الذى يؤرق الدولة بالكامل.
ومن يتابع ما يحدث فى هذا الملف سيجد نفسه أمام حقيقة مهمة، وهى أن الدولة بكل مؤسساتها مطلعة على تفاصيل ما يحدث، ومستعدة للتعامل مع أى مشكلة ظهرت أو مرشحة للظهور فى تطبيق القانون، لأن الدولة كما قال الدكتور مصطفى مدبولى، ليست فى صراع أو معركة مع المواطن، وإنما تريد حل المشكلة وغلق هذا الملف، لذلك هناك تركيز على مراعاة البعد الاجتماعى خلال عمليات التقييم، وأعتقد أن القرارين اللذين أعلنهما رئيس الوزراء أمس تنفيذاً لتوجيهات من الرئيس عبد الفتاح السيسى بتعميم سعر متر التصالح بالريف للحد الأدنى وهو 50 جنيهاً للمتر، تسهيلا وتيسيرا على أهالينا فى الريف المصرى، وخصم 25٪ من قيمة التصالح حال سداد القيمة بالكامل، يؤكدان أن الدولة تستمع لنبض الشارع وتتفاعل معه، وليست بعيدة عنه.
هذا التفاعل ظهر من القرارات المتتابعة التى تصدرها الحكومة فى ملف التصدى للبناء العشوائى والتعدى على الأراضى الزراعية، والتى تأتى كلها تلبية لشكاوى المواطنين بعد دراستها وفحصها.
المحصلة النهائية أن الدولة وقفت على الحقيقة المهمة، وهى ضرورة وضع حد للنزيف العشوائى للبناء، مع مراعات البعد الاجتماعى، مع وضع قاعدة جديدة تسير عليها الدولة من الآن فصاعداً، وهذه القاعدة عنوانها الرئيسى أنه لن يسمح لأى مخالفات بناء جديدة أو بناء عشوائى، ولن يتم السماح منذ هذه اللحظة بالبناء على قيراط جديد من الأراضى الزراعية، لأن استمرار نزيف الأراضى الزراعية يهدد بالوصول لمشكلة حقيقة فى توفير الغذاء لـ100 مليون مواطن فى المستقبل.