وافق الرئيس جمال عبدالناصر على اقتراح فريقه الطبى باستدعاء أكبر أطباء القلب الروس «يفغينى شازوف»، وذلك بعد إصابته بأول أزمة قلبية يوم 11 سبتمبر 1969، والتى ارتفعت حدتها فيما بعد وأدت إلى وفاته يوم 28 سبتمبر، 1970، «راجع، ذات يوم، 11 و12 سبتمبر 1969».
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يخضع فيها «عبدالناصر» للفحص الطبى من «شازوف» حيث كشف عليه أثناء زيارة الرئيس إلى موسكو فى يوليو 1968، كما حضر إلى القاهرة بعدها بشهور لمتابعة حالته، أما فى هذه المرة فكانت قصة الاستدعاء مليئة بالإثارة، وأحيطت بسرية بالغة، ويذكر هو تفاصيلها فى مذكراته «الصحة والسلطة، مذكرات كبير أطباء الكرملين، يفغينى شازوف» إعداد وترجمة، الدكتور إيمان يحيى.
يكشف «شازوف» أنه فى أول سبتمبر 1969 توجه بسيارته إلى أحضان الطبيعة على نهر «الفولغا» حيث أقيم واحد من أفضل منتجعات الاستشفاء الحديثة المزودة بأجهزة طبية، وفى إحدى الأمسيات أخبره أحد المسؤولين المحليين بأن موسكو اتصلت تليفونيا، وتطلب منه أن يكون فى مكتبه غدا فى الصباح الباكر للضرورة، حيث سيتلقى تليفونا مهما، وفى الصباح الباكر داخل مكتبه فى موسكو وبعد رحلة بالطائرة قطعت نحو ألف كيلومتر، جاء صوت الهاتف، وكان المتحدث هو «يورى أندروبوف» المسئول عن جهاز «كى. جى. بى»، جهاز المخابرات السوفيتية.
أخبره «أندروبوف»، أنه تلقى رسالة عاجلة من القاهرة تطلب من بريجنيف «سكرتير الحزب الشيوعى السوفيتى» أن تسافر إلى الرئيس جمال عبدالناصر على وجه السرعة، وأن الرسالة لم تذكر أى تفاصيل أخرى، ولكن المصريين يشددون على الحفاظ على سرية الزيارة، وقال: «إعداد طائرة خاصة للسفر إلى القاهرة قد يستغرق وقتا طويلا، كما أنه قد يلفت انتباه موظفى الطيران المدنى بالقاهرة والعاملين فى شركة الطيران السوفيتية «أبرفلوت» وخاصة أن المخابرات الإسرائيلية «الموساد» أعينها مفتوحة على القاهرة».
اقترح «أندروبوف» على «شازوف» أن يسافر على متن رحلة طائرة عادية مقرر قيامها فى الساعة الثانية عشرة، وكانت بعد ثلاث ساعات من حينه، وأضاف: «غالبا لن يثير حضورك إلى القاهرة الاهتمام أو الفضول، قليل من يعرفونك هناك»، ألقى رئيس جهاز المخابرات السوفيتية تعليماته على «شازوف» قائلا: «سوف يتولى رفاقنا ترتيب صعودك إلى الطائرة من موسكو، ستجلس فى الدرجة الأولى، ولن يكون هناك أحد سوى مستشارينا العسكريين، وهم لا يعرفون شيئا عن هويتك، وفى القاهرة ستجد رجالنا فى انتظارك يأخذونك من باب خاص فى الطائرة إلى مكان آمن بالاتفاق مع المصريين، وعندما تخرج إلى القاهرة احرص على ارتداء نظارة سوداء وقبعة حتى لا يتمكن أحد من التعرف عليك أو تصويرك من شرفة مبنى المطار».
يعترف «شازوف» بأنه حين استمع إلى هذه التعليمات شعر بأنه أمام قصة شبيهة بقصص جيمس بوند، ويؤكد: «رغم أننى لا أجيد التمثيل مطلقا، فقد فعلت كل شىء كما طلبوا منى، عندما نزلت من سلم الطائرة إلى أرض مطار القاهرة أحاطت بى مجموعة من الرجال فى دائرة محكمة، وفى ثوان كنت أجلس فى سيارة انطلقت بى فى شوارع القاهرة حتى فندق شبرد على النيل، وصعدت إلى الطابق الأخير الذى أغلق عدد من الحراس جزءا منه خصصوه لإقامتى، وقادنى رجل أمن إلى جناح واسع طلبوا منى ألا أغادره إلا برفقة سكرتير عبدالناصر».
بعد عشرين دقيقة حضر سكرتير «عبدالناصر»، واصطحب «شازوف» إلى بيت الرئيس فى ضاحية مصر الجديدة «منشية البكرى» بالقاهرة، فوجئ الطبيب الروسى بمستوى منزل عبدالناصر، يقول: «فى منزل متواضع مكون من طابقين اثنين كان يقيم عبدالناصر، فى طابقه الأول، قابلتنى زوجته الوقورة، والصامتة دائما، وجمع من أطبائه، لم يترك حديثهم عن شكوى الرئيس الأخيرة، ونتائج رسم القلب لدىّ أى شك من أن مرض تصلب الشرايين قد وصل إلى شرايين القلب، وأدى إلى ظهور «احتشاء القلب» أى إصابة أجزاء منه، ولحسن الحظ فإن التطور الخطير فى حالة «عبدالناصر» لم يكن قد مر عليه سوى يوم واحد أو يومين، وكان من السهل اكتشاف أنه يعانى من احتشاء القلب متوسط الخطورة، ودون أية مضاعفات أخرى».
يضيف «شازوف»: «كان يجب عليه أن يتعاطى العقاقير التى تسهم فى توسيع مجرى الأوعية الدموية، فضلا عن أخرى مضادة للتجلط، وفى توسل نظرت إلىّ زوجته وأطباؤه مطالبين أن أتولى بنفسى إقناعه بأنه يحتاج إلى راحة تامة تدوم شهرا على الأقل».
وصعد «شازوف» إلى الطابق الثانى لفحص «عبدالناصر»، فماذا جرى؟».