صعد أكبر أطباء القلب الروس «شازوف» إلى حيث يرقد الرئيس جمال عبدالناصر مريضا، فى الطابق الثانى من منزله بمنشية البكرى منذ يوم 11 سبتمبر، 1969، وهو اليوم الذى أصيب فيه بأول أزمة قلبية، وتفاقمت مع جهود عبدالناصر، رغم تحذيرات الأطباء، مما أدى إلى وفاته فى 28 سبتمبر 1970، ويذكر الدكتور منصور فايز، رئيس الفريق الطبى للرئيس فى مذكراته «مشوارى مع عبدالناصر»، والدكتور الصاوى حبيب أحد أعضاء هذا الفريق فى مذكراته «طبيب عبدالناصر»، أنهما قررا استدعاء «شازوف» إلى القاهرة، وحضر بالفعل..«راجع ذات يوم 11و12و13 سبتمبر 2020».
يروى «شازوف» تفاصيل هذا الاستدعاء السرى المثير فى مذكراته «الصحة والسلطة.. مذكرات كبير أطباء الكرملين»، ترجمة، الدكتور إيمان يحيى، يذكر أنه فور وصوله إلى منزل الرئيس، قابل الأطباء واطلع على ما بحوزتهم من تقارير، ثم صعد إلى الطابق الثانى، ويصف غرفة نوم الرئيس بأنها «متواضعة»، يتذكر:«كان جسده ممددا فوق الفراش، ولكنه فور أن رآنى بادرنى باعتذار رقيق عن الرحلة المفاجئة التى جاءت بى إلى القاهرة، وابتسم قائلا:«أترى.. أى مريض اخترت؟ إلا أن هذه الأجواء المفعمة بالترحيب ودفء المشاعر، لم تتغلب على قلق ينمو بداخلى إزاء المستقبل».
يؤكد «شازوف»: «لما كنت على إيمان بأن الصراحة أفضل دواء، كما علمتنى الحياة وتجاربها، وأن الصراحة هى الأكثر قوة فى النفاذ والتأثير على الأشخاص الأقوياء، خاصة حين اعتادوا اتخاذ القرارات بأنفسهم، فقد أجبت عبدالناصر عندما سألنى عن احتمالات تطور حالته فى المستقبل قائلا: «أولا يلزمنا على الأقل عشرة أيام قبل أن يصبح كل شىء أمامنا واضحا»، يضيف «شازوف»: «نظر إلىَّ عبدالناصر، ثم قال بلغة تذيب المسافات:«لا تفكر أننى لا أثق بأحد أو أننى أشك فى نصائحك، ولكن الوضع شديد الخطورة عندنا، نحن نحاول الوقوف على قدمينا.. والآن فقط بدأنا لتونا فى دعم قدرتنا الدفاعية لإنشاء جيش حديث وعصرى، وفى هذه الظروف الصعبة، فإن اختفائى عن الأضواء أو المشاركة يضعف من جهودنا، هذا هو قدرى، ولما كانت عيون الإسرائيليين تراقب شؤونى، بل وأحوالى الصحية كذلك، فقد أخفينا بحرص نبأ زيارتك للقاهرة، لقد أبلغنى أمين هويدى، رئيس المخابرات، بأن الموساد «المخابرات الإسرائيلية» كثفت نشاطها فى الفترة الأخيرة لمعرفة هل حدث شىء أم لا، ولذا فقد طلبنا منك أن تلزم الفندق طوال فترة بقائك بالقاهرة».
انتهى اللقاء، وفحص الطبيب، الرئيس، ونزل «شازوف» من الطابق الثانى، ويكشف كيف كان المشهد فى الطابق الأول قائلا:«كان السادات «نائب عبد الناصر» وآخرون من قادة الدولة ينتظرون فى الطابق الأول، حين هبطنا إليهم بعد لقاء الرئيس أبلغناهم بما توصلنا إليه، وأخذ السادات فى الإطالة بعبارات الشكر والثناء علىَّ بسبب الأنباء الطبية التى حملتها، ويفهم منها أن حياة عبدالناصر لا تتعرض لخطر مباشر، وموافقتى على البقاء فى القاهرة».
استمر «شازوف» فى التردد على منزل عبدالناصر يوميا كل مساء، طوال فترة بقائه فى القاهرة، حسب تأكيده، مضيفا: «منذ الزيارة الثانية له، بدأ عبدالناصر يشعر بتحسن فى صحته، وبالتدريج بدأت أحاديثنا تتحول بعيدا عن المرض، وكنت أيامها صغيرا غير منغمس فى السياسة أو الشؤون الدبلوماسية، كنت مجرد بروفسير وطبيب».
يؤكد «شازوف» أنه ظل يراقب ويتابع الحالة طوال عشرة أيام، وكانت هى فترة الراحة التى أمضاها عبدالناصر فى منزله، وبعدها بدأ فى مقابلة وزرائه.. يذكر متحسرا: «عدت بالطائرة إلى موسكو بقلب موجع، لأننى أدركت أن عبدالناصر لن يلتزم بتعليماتنا الطبية، لقد كان أمامه عمل كبير لإعادة بناء قوة بلاده، وهذا حدث بالفعل».
من موسكو، كان شازوف يتابع حالة عبدالناصر، وخلال أيام قليلة ارتفع منسوب القلق لديه، بسبب الأخبار التى تلقاها.. يقول:«لم يمض أسبوع واحد على مغادرته الفراش إلا وكان عبدالناصر قد انخرط فى عمل مضنٍ»، يكشف عن مشاعره أمام ذلك:«أدركت أننا كأطباء لا نملك إلا النصح والتحذير، وخصوصا إذا كان من ذوى الإرادات القوية، الذين يأخذون قراراتهم بمحض إرادتهم، حتى لو كانت فى غير صالح حياتهم وبقائهم..عاش عبدالناصر الشهور الباقية من حياته ليوفر أسباب النصر لبلاده فى حرب أكتوبر 1973».